الفقراء والدولة وشبه الدولة واللادولة!!
د. محمد سيّد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن الفقراء في الدولة المصرية, فمصر واحدة من أقدم المجتمعات البشرية التي عرفت التنظيم الذي أصبح حديثاً يطلق عليه مفهوم الدولة, وبما أننا مجتمع نهريّ فقد كانت هناك حتمية لوجود هذا التنظيم الذي يتطلب وجود حكومة مركزية تتولى بناء وإقامة المشروعات العامة, خاصة مشروعات الري التي تتطلبها وسيلة الإنتاج الرئيسية وهي الزراعة والمتمثلة في شق الترع والقنوات لتمكين الفلاح من الحصول على المياه اللازمة لعملية الزراعة؛ هذا إلى جانب بعض الوظائف الأخرى للحكومة تتمثل في حفظ الأمن وتمكين المواطن من العيش بأمان داخل حدود إقليمية, وتوفير احتياجاته الأساسية التي لا يتمكن من توفيرها بمفرده أو بمساعدة أقرانه.
وفي مقابل هذا الدور كانت الحكومة تحصّل الضرائب بأشكالها المختلفة من الفلاح المصري عبر التاريخ, وكان المواطن يقدّم ضريبة الوطن بالانخراط في الجيش كجزء من حقوق الوطن عليه, ومع تطوّر شكل ومفهوم عمليات الإنتاج داخل المجتمع المصريّ تطوّر مفهوم الدولة من شكله البسيط إلى الأشكال الأكثر تعقيداً والتي انتهت بذلك العقد الاجتماعي بين المواطن وحكومته والذي يطلق عليه مفهوم الدستور, وهو وثيقة تتحدّد وفقاً لها الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة الحاكم والمحكوم, وعندما تختل العلاقة بين الطرفين ولا يتم الالتزام ببنود الدستور نصبح أمام معضلة حقيقيّة تهدّد ذلك الكيان الذي نطلق عليه الدولة.
فعندما تعمّ الفوضى في البلاد سواء بشكل مؤقت (في أعقاب الثورات الكبرى) أو بشكل دائم عندما تفشل الحكومات في أداء وظائفها وأهمها وظيفة الأمن وحماية الوطن من الأعداء الخارجيين أو حماية المواطن من الأعداء الداخليين, هنا يصبح مفهوم الدولة مهدداً حيث يمكن أن نطلق عليه في الحالة الأولى (المؤقتة) مفهوم شبه الدولة حيث تكون البلاد في هذه الحالة غير مستقرّة حيث يتوقف العمل بالعقد الاجتماعيّ الذي وقع بين الحاكم والمحكوم (الدستور) ونكون في مرحلة انتقالية تستلزم التوافق بين أفراد المجتمع على عقد اجتماعي جديد يتمّ من خلاله إعادة رسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وهنا تعود الدولة لمسمّاها الحقيقي حيث تنتقل من مرحلة شبه الدولة إلى مرحلة الدولة. وهذا ما شهدته مصر بعد 25 يناير وحتى الانتهاء من كتابة الدستور الأخير وانتخاب الرئيس ومجلس النواب.
أما الحالة الثانية (الدائمة) والتي تفشل الحكومات فيها عن أداء وظائفها وفي مقدمتها وظيفة الأمن سواء أمن الوطن أو أمن المواطن، فنحن هنا أمام مفهوم اللادولة وهي المرحلة التي تشهدها بعض المجتمعات حين تفشل الحكومات المتتالية في تحقيق المتطلبات الأساسية للمواطن والتي يمكن أن تحفظ له أمنه واستقراره بل وحتى بقاءه على قيد الحياة. فعلى الرغم من الاعتراف بأن الحكومات المصرية مؤخراً قد نجحت إلى حد كبير في الحفاظ على أمن الوطن من أعدائه الخارجيين من خلال معارك الجيش المصري على الحدود سواء الشرقية أو الغربية وكذلك الجنوبية, إلا أن الحكومات المتتالية وحتى الآن قد فشلت في تحقيق حد أدنى من الأمن للمواطن داخلياً وما زال الأعداء الداخليون يعبثون بمقدرات المواطن دون أي قدرة للحكومة الممثلة للدولة على ردعهم.
فمطالب الفقراء والكادحين في مصر بسيطة للغاية وهي حد أدنى من الحياة الكريمة وقد تمت ترجمتها والتعبير عنها مراراً في شعار بسيط هو العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهي متطلبات الأمن الاجتماعي للمواطن المصري التي إذا فشلت الحكومة في توفيرها نتحوّل فوراً من دولة إلى لادولة. وكما هو معلوم أن الحكومات المتتالية على حكم مصر وعبر ما يقرب من نصف قرن لم تتمكّن من تحقيق الأمن الاجتماعي للمواطن وبذلك أصبحنا دائما مهددين بالعيش في اللادولة. فالنظام الرأسمالي وفقاً لآليات السوق الذي تنتهجه الحكومات المتتالية على حكم مصر لا يمكنها من توفير الأمن الاجتماعي للمواطن الفقير بل تزيد كل يوم من أعداد غير الآمنين الذين يتساقطون من فوق السلم الاجتماعي وينتقلون من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا, حيث تقوم الحكومة بالعمل لصالح مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال غير الوطنيين (أعداء الداخل) على حساب جموع المواطنين وبدلاً من حماية المواطن تقوم الحكومة بحماية مجموعة من السماسرة الناهبين لثروات الوطن الذين يقتلون الفقراء بقلب بارد.
ولعل ما حدث خلال الخمس سنوات الماضية خير شاهد وخير دليل على فشل الحكومات وتكريس مفهوم اللادولة. ففي الوقت الذي قامت فيه الحكومات الفاشلة بتعويم الجنيه أمام الدولار دون اتخاذ أي إجراءات لحماية المواطن من جشع التجار الذين يتحكمون في الأسواق, حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنونيّ مع وعد من الحكومة بأنه عندما ينخفض سعر الدولار سوف تنخفض الأسعار, وبالفعل انخفض الدولار تدريجياً عبر السنوات الخمس الماضية لكن ظلت الأسعار كما هي بل تزيد يوماً بعد يوم وهو ما يزيد من تهديد أمن المواطن الاجتماعي ويجعلنا بحق في اللادولة. وخلال الأيام الماضية شاهدنا ارتفاعاً جديداً لأسعار الدولار أمام الجنيه المصري وتم تغيير محافظ البنك المركزي مهندس عملية التعويم الأولى. وبالطبع استغل التجار أعداء الوطن حالة عدم الاستقرار في السوق المصرفية ليقوموا من جديد بإشعال نيران الأسعار لتلتهم المواطنين الفقراء, وهي مؤشرات لمزيد من الاحتقان في الشارع المصري, فاستمرار السياسات نفسها وعدم القدرة على حفظ الأمن الاجتماعي وأبسطها عدم القدرة على ضبط الأسعار يجعلنا أمام مشهد معقد قد يدفع غير الآمنين لفعل أيّ شيء من أجل العودة من اللادولة إلى الدولة, اللهم بلغت اللهم فاشهد.