المفارقة السياسية والمتطلبات الأخلاقية…!
د. عدنان نجيب الدين
المفارقة السياسية» مصطلح ابتدعه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، ويعني أنّ العمل السياسي يتكوّن بالضرورة من عنصرين كلّ منهما نقيض للآخر: العنصر الأول هو تحقيق السلم والوئام بين أبناء المجتمع، والثاني هو الوسيلة التي يتمّ بها تحقيق هذا الهدف وتتمثل بالقوة والإكراه، ايّ قوة السلطة الحاكمة المتمثلة بالمؤسسات العسكرية والأمنية. وهنا لا بدّ من طرح السؤال الآتي: الى أيّ حدّ يستطيع الرجل السياسي أن يخضع نفسه للمتطلبات الأخلاقية، وهل يمكنه فهم السياسة كمتفرّعة عن علم الأخلاق؟ وهل هناك مذهب أخلاقي يتواءم مع متطلبات السلطة؟
هنا لا بدّ من التفريق بين ما هو سياسي ايّ ما يتعلق بالدولة ومؤسساتها، وبين العمل السياسي الذي يعني فن الحكم من خلال اللعبة الديموقراطية والوصول إلى السلطة. انّ الأساس الذي تقوم عليه ايّ علاقة بالسلطة هو القيادة السياسية والاستجابة الشعبية.
وحتى تسير الأمور بسلاسة لتحقيق الأهداف التي تتوخاها ايّ سلطة سياسية، يتوجّب على رجل السياسة التفريق بين ما هو خاص وما هو عام، ايّ لا يكون هناك أيّ تداخل بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. فوحدها الأنظمة الدكتاتورية هي التي تخلط بين الأمرين. من هنا وضعت الأنظمة الديموقراطية وسائل للمراقبة والمحاسبة حتى لا تضيع المصالح العامة في دهاليز المصالح الخاصة.
ولو تفحّصنا عن كثب سلوكات ما يسمّى عندنا بـ «السياسيين»، ايّ من يمتهنون العمل السياسي، نجدهم في معظمهم يتخذون من السياسة مهنة للتكسّب والإثراء، بحيث أنّ من اقتحموا هذا الميدان قد جعلوا مصالحهم الخاصة فوق مصالح الدولة، ومن هنا نجد عدداً كبيراً من هؤلاء السياسيين، وندرة من رجال السياسة أو بالأصحّ رجال الدولة.
كان رئيس الوزراء الأسبق د. سليم الحص يقول «يبقى الرجل السياسي قوياً إلى أن يطلب شيئا لنفسه». فكم عندنا اليوم من سليم الحص؟
قبل الحرب الأهلية وحكم الميليشيات، كان يمكن العثور على أمثاله، لكننا نجد صعوبة اليوم، فلماذا؟
إذا كان على من يتصدّى للمسؤولية العامة او الحكم أن يتمتع بثقافة سياسية وأخلاقية وقانونية وحسّ وطني وضمير حي، ويعرف كيف يترفع عن أنانيته ويفرّق بين العام والخاص، عليه أن يفهم أنّ ألف باء السياسة هو فهم كيفية إدارة الدولة أو المرفق العام بتجرّد ونزاهة تحقيقاً لما فيه مصلحة الناس، وأنّ الحوكمة الرشيدة تعني خدمة الشعب وتحقيق أهدافه في التنمية والرفاه، وكذلك في الأمن والأمان وحماية الوطن وأبنائه وثرواته.
لكننا نجد، وعلى امتداد الفترة التي امتدّت منذ بداية الحرب الأهلية إلى اليوم، أنّ من تعاقب على الحكم، باستثناء القلة القليلة منهم، قد استفادوا من وجودهم في السلطة وحققوا ثروات ومزايا لهم ولعائلاتهم وللبعض ممن تعلق بهم كالحواشي وما دونهم على درجات.
وإذا كان الشعب قد ائتمنهم على مقدراته ومستقبله ومستقبل أجياله القادمة، نجد أنهم خانوا الأمانة وأضاعوا الأحلام وفرّطوا بالحقوق، واستطاعوا بلا رادع ولا خوف من تأنيب ضمير أن يسيروا بالبلاد إلى الانهيار الشامل بعد أن بدّدوا ثروات الوطن ونهبوا أمواله العامة، فدقت المجاعة الأبواب، ولولا بعض الأموال التي تأتي من المغتربين لأهاليهم لكنا رأينا مشهداً مرعباً في لبنان.
صحيح أنهم لم يستعملوا القمع العسكري أو الأمني كما في الأنظمة الدكتاتورية، لكنهم استخدموا ما هو أدهى وأمرّ، أيّ انهم استخدموا الواجهة الديموقراطية للنظام، فاستغلوا السلطة إلى أبعد الحدود وأباحوا لأنفسهم كلّ أشكال الفساد، فكانت مزاريب الهدر والسرقات مفتوحة لهم من دون أيّ مراقبة أو محاسبة في المجالس النيابية المتعاقبة. فرغم كلّ هذا الانهيار في الاقتصاد والمالية العامة وتبخر أموال المودعين في المصارف، ليس هناك من مسؤول خضع للمحاكمة، وكأنّ الذي حصل هو قضاء وقدر وليس من فعل فاعلين.
وفضلاً عن ذلك، كانت سياسات البعض الخرقاء أو الملتبسة أو اللامسؤولة هي التي شجعت العدوان على وطننا فاجتاحت القوات الصهيونية لبنان لتحقيق أطماعها فيه وصولاً إلى العاصمة بيروت، وحصل للعدو ما لم يكن في الحسبان، إذ انطلقت مقاومة شجاعة ومخلصة من أبناء هذا الوطن قارعت العدو بلا كلل ولا ملل وقدّمت التضحيات الجسام من شباب نذروا أنفسهم لتحرير بلدهم واستعادة كرامته وسيادته فهزموا العدو وأجبروه على الجلاء عن أرضنا صاغراً ذليلاً. ثم جاء تصدّي هذه المقاومة للعدوان «الإسرائيلي» في العام 2006 فأذاقته هزيمة نكراء ما زال يجرجر أذيالها حتى اليوم، وردعته عن ايّ محاولة للاعتداء مرة أخرى. واليوم، وبعد أن حاول العدو سرقة ثروتنا البحرية المتمثلة بالنفط والغاز، وقفت المقاومة الباسلة لتريه العين الحمراء وتهدّد منشآته وكيانه لو تجرّأ وسوّلت له نفسه المسّ بحقوق لبنان.
طبعاً، نحن نقدّر التكامل بين المقاومة والجيش اللبناني في ايّ معركة خاضها لبنان ضدّ العدو «الإسرائيلي» والعدو التكفيري. فجيشنا مقدام وشجاع ومضحٍّ ووفيّ لشعبه، وقيادته وعناصره بضباطه وجنوده من أكثر الجيوش كفاءة ووطنية وتمسك بالسيادة، لكن السلطات السياسية المتعاقبة بسبب خوفها وخضوعها للأميركيين والدول الغربية لم تذهب الى تسليحه بالقدرات العسكرية التي تردع العدو وتمنعه من استباحة أرضنا وسمائنا ومياهنا، إلى درجة انه لم يسمح للبنان بقبول التقديمات العسكرية وحتى الهبات من الدول الأخرى. كما أنّ السياسيين عندنا المرتبطة مصالحهم الخاصة بالمصالح الغربية وخوفاً من العقوبات الأميركية، لم يجرؤوا على قبول العروض الروسية والصينية والإيرانية لإقامة مشاريع تنقذ لبنان وتؤمّن له ما يلزمه من البنى التحتية بما يخرجه من أزماته وينقذه من كلّ هذا الانهيار الذي تسبّب به هؤلاء السياسيون أنفسهم بغطاء من الأميركيين أنفسهم وحلفائهم الغربيبن.
وهنا نسأل الشعب اللبناني: هل، بعد كلّ ذلك، نأتمن من جلب الخراب ودمّر الاقتصاد وسرق الودائع، سواء كانوا سياسيين أو مصرفيين أم أصحاب امتيازات، هل نؤمّنهم على حاضرنا ومستقبل أولادنا وهل نثق بأنهم هم من سينقذوننا من الهاوية التي أوصلونا إليها؟ وهل يؤتمنون على حماية ثرواتنا وحدودنا وكرامتنا؟
أم أننا سنظلّ أسرى خداعهم وإعلامهم المضلل الذي يصوّب على المقاومة التي حرّرت لبنان وجنوبه من الاحتلال الصهيوني، وعليها نعوّل اليوم في تحرير ثرواتنا النفطية والغازية؟