الحرب عن بُعد: سلاح المصارف وسلاح الطاقة
خلال عقود طوّر الأميركيون منظومة لخوض الحرب عن بُعد، تضمّنت في شقها العسكري سلاح الطائرات دون طيار التي تقطع آلاف الكيلومترات وتنفذ مهام الاستهداف، وعمليات الكوماندوس والتدخلات المخابراتية، وتصنيع الميليشيات والزج بها في إحداث الفتن وتفجير الصراعات الأهلية، وتشكل المنظومة الإعلامية مكوناً رئيسياً فيها تنفق عليه مليارات الدولارات سنوياً، بالإضافة إلى ما يُعرف بحروب الجيل الخامس لجهة توظيف واستخدام تشكيلات جمعيات المجتمع المدني المموّلة، لإنتاج الثورات الملوّنة وفرض خيار الفوضى لاستدراج عروض إعادة إنتاج الاستقرار، مقابل الشروط التي يضعها الأميركيّ، وبعد عقود من الاختبارات الحسيّة تبين أن هذه المنظومة تحقق مكاسب تكتيكية لكنها لا تملك مقوّمات العيش الاستراتيجي، ومع الوقت تتحول عائداتها الى أعباء يصعب التخلص منها دون تقديم تنازلات أو التسليم بتراجعات كبيرة، كما قال الانسحاب من أفغانستان ويقول الفشل في سورية، لكن الذي بقي من هذه المنظومة ثابتاً الى حد التحوّل الى استراتيجية بديلة كان سلاح العقوبات المالية الذي يعتمد بصورة كلية على تحويل المكانة الأميركية في النظام المصرفي العالمي الى سلاح في الحروب والنزاعات.
خطة الحرب المعاكسة في أوكرانيا لإجهاض الحرب الروسية، كانت ترتكز بالنسبة لواشنطن على سلاح المصارف، والأميركيون الذين يعترفون بأن سلاح العقوبات لم ينجح في تغيير سقوف الموقف الإيراني التفاوضي رغم ما أسماه الرئيس السابق دونالد ترامب بالضغوط القصوى، يعرفون ان في إيران أوجاعاً وآلاماً ومتاعب كبيرة سببتها العقوبات، وان ايران تحملت هذه الأوجاع بقوة البناء العقائديّ من جهة، والسير نحو اقتصاد الدولة الصارم، وهما شرطان يعاكسان مزاج الشعب الروسي وسعيه للرفاه وتمسكه بالحرية السياسية والإعلامية، والاعتقاد الأميركي كان يقوم على أن صمود الجيش الأوكراني لأسابيع كافٍ لتبدأ العقوبات تفعل فعلها في دفع روسيا نحو اقتصاد الدولة الصارم من جهة، والانهيار المالي من جهة موازية، ما سيتكفل بتفجير الاستقرار السياسي والاجتماعي في بنية الدولة والمجتمع معاً، ولذلك صممت العقوبات بحزمات متتالية موجعة تنتج موجات انفجارية تتحرّك تردداتها مثل حجارة الدومينو، تتساقط معها عناصر الاستقرار تباعاً.
مع الأيام الأولى ظهر أن ما حسبه الأميركيون كان دقيقاً، فقد فقد الروبل الروسي في ثلاثة أيام نصف قيمته، قبل أن يبادر الرئيس الروسيّ ويشهر سلاحاً موازياً، هو سلاح الطاقة، فيفرض تسديد فواتير الغاز والنفط والمواد الخام الروسية بواسطة الروبل الروسي، الذي استردّ قيمته فوراً وخلال أيام بدأ يحقق أرباحاً وصولا لتحقيق مكاسب تجاوزت الـ50%، ومن ثم بدأ يقنن توريد الغاز إلى أوروبا التي سارعت بحماقة إلى الانضواء في حملة العقوبات الأميركية القائمة على سلاح المصارف، ولم تقم حساباً لسلاح الطاقة، وهي اليوم تردّد كالببغاء كلمات الأميركيين عن اتهام روسيا باستخدام محرّم للطاقة كسلاح، وكأن استخدام النظام المصرفيّ كسلاح هو جزء من قواعد الحروب، وما تقوله روسيا واضح وصريح حيّدوا الاقتصاد وحرية المتاجرة والتداول الماليّ عن السياسة والحرب لنفعل ذلك فوراً.
لم يعد للبروباغندا الأميركية فعل ردع روسيا عن مواصلة استخدام سلاح الطاقة لإقامة توازن ردع بوجه سلاح المصارف، فقررت واشنطن اللجوء إلى مغامرة خطرة هي وضع سقف لسعر مبيع النفط الروسيّ في العالم، والجواب الروسي هو التهديد بوقف بيع النفط في الأسواق العالمية إذا تدخل الأميركيون والأوروبيون في حرية السوق النفطية، وفي حال تمّ ذلك سيحدث ما حذّر منه الرئيس الروسي بالأمس من تدمير للاقتصاد العالمي، لأن روسيا التي لا بديل عنها في توفير الغاز لأوروبا، لا بديل عنها لضمان ثبات سعر النفط في الأسواق العالميّة وهي تضخ عشرة مليون برميل يومياً في هذه السوق سيكون وقفها كفيلاً بأن يقفز سعر البرميل الى 200 دولار فوراً.
بعد الردع النوويّ انتقلت روسيا الى حروب الردع الحديثة، سلاح الطاقة مقابل سلاح المصارف، وهذه أدوات صياغة العالم الجديد.