الاحتلال وخواء استراتيجية الحرب الاستباقية
أمير مخّول
جوهرياً، الحروب الاستباقية نافدة في مفهوم الحرب التقليدية، أكثر منها في الحرب الحديثة، أي الحرب بين جيوش نظامية. يقوم هذا المبدأ على توجيه ضربة استباقية تجهض استعداد العدو الفعلي والآني كي تقضي على قدرته في شنّ حرب يخطط لها، وهو على أُهبة الاستعداد لها.
يمكن اعتبار حرب حزيران 1967 والعدوان «الإسرائيلي» على كلّ من مصر وسورية والأردن آخر الحروب الاستباقية التي شنتها «إسرائيل»، إذ سدّدت فيها ضربة ساحقة لطيران هذه البلدان العسكري، تبعها احتلال عسكري. في حين مثلت حرب 1973 سقوطاً تاريخياً لهذه الاستراتيجية، فهي فعلياً حرب استباقية عربية ضد «إسرائيل»، بالتحديد في الجزء المتعلق بعبور الجيش المصري قناة السويس، وتدمير حصون خط بارليف، والهجوم السوري وتحرير أجزاء واسعة من الجولان المحتلّ خلال الضربة الأولى. وربما كانت حرب 1973 آخر الحروب الاستباقية، بسبب أسبقية مصر وسورية في هذه الحرب، وطبيعة الاستعداد والمناورة الاستخبارية، التي ما زالت تردّداتها صاخبة في الحالة «الإسرائيلية» الداخلية، أو ربما بسبب نهاية الحروب الكبرى مع «إسرائيل»، بعد اتفاق كامب ديفيد مع مصر.
مع ذلك، لم تتنازل «إسرائيل» عن الحرب الاستباقية كمبدأ، وهذا ما عبّر عنه بنيامين نتنياهو، بعد ثلاثة عقود، في خطابه بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وهو يرمز إلى إيران في تهديده بقوله: «ينبغي ألّا نستهين بتاتاً بالتهديدات، ولا نتجاهل بتاتاً المؤشرات إلى الخطر، ولا نتنازل عن الضربة الاستباقية أبداً».
مع تطور التكنولوجيا الاستخبارية، ومنظومة الأقمار الاصطناعية، والطائرات المسيّرة، وطائرات الاستطلاع الأكثر تطوّراً، كأدوات حرب أساسية، باتت تحركات الجيوش مكشوفة أكثر، والأعمال الحربية متوقعة أكثر. تغيّر مفهوم الحرب الاستباقية، مع الحفاظ على بعض مكوّناتها، بالذات ما يطلق عليه «قوة النيران الفتاكة»، التي تكون جزءاً من الضربة الأولى متعدّدة الأهداف؛ ساحقة، لكن المواجهة داخل فلسطين غير متكافئة بالمطلق، وهذا يُبطِل من مردودها الاستباقي.
في عدوانها الأخير على غزة واستهدافها الجهاد الإسلامي، تباهت المؤسسة الصهيونية الحاكمة بأنها ألقت بِوابلٍ من نيرانها المتزامنة عن بُعد، مستهدفةً عدة مواقع، استناداً إلى معلومات استخبارية دقيقة، لذا أنهت العملية بسرعة بعد إلحاقها خسائر كبيرة بالجهاد الإسلامي.
المواجهة داخل فلسطين غير متكافئة وهذا يُبطِل من مردودها الاستباقي، في المقابل، تعترف «إسرائيل» بنقطة ضعفها الجوهرية، قواتها البريّة، التي باتت تتعامل معها كـ «عجلة احتياط»، لا لزوم لها في عمليات الجيش الهجومية؛ وفق رأي محلل هآرتس العسكري عاموس هارئيل. كما تتردّد سياسياً في استخدامها نظراً لاحتمال وقوع خسائر في قوات الجيش، ناهيك باحتمال أسر جنودها من قبل الفصائل الفلسطينية.
لقد تحوّلت الحرب ضدّ الفلسطينيين الى حرب استنزاف مستدامة، لا تستدعي كامل قدرات الدولة العدوانية في حين تستدعي كلّ قدرات الضحايا. تستخدم «إسرائيل» في حربها مركبات محدودة من الحرب الاستباقية مثل الاغتيالات، أو حسب الوصف «الإسرائيلي» استهداف المقاتلين الفلسطينيين، الذين تعتبرهم «قنبلة موقوتة»، بناءً على معلومات استخبارية كما تزعم، التي قد تؤدّي إلى مواجهة عسكرية لكن ليس بحجم حرب بين جيوش نظامية. كما تعتمد مبدأ استهداف من تصفهم بأنهم «مُضاعِفو القوة»، أيّ الذين تختلف الحالة الفلسطينية بوجودهم عن عدم وجودهم، وبذلك تستبق قدرتهم على تعزيز المنظومة القتالية الفلسطينية المقاومة.
الوضع في فلسطين عبارة عن حرب غير متكافئة بين دولة تملك ترسانة عسكرية واستخبارية هائلة، وجيش من أقوى جيوش العالم، في مقابل مجموعات فلسطينية مسلحة ذاتياً، وكتائب مقاومة تملك نقاط قوة، لكنها تدرك تفوق «إسرائيل» من الناحية العسكرية والميدانية. تلجأ الفصائل الفلسطينية إلى اعتماد أحد مبدأي كارل فون كلاوزفيتش، الحرب امتداد السياسة بطرق أخرى، فهي تسعى إلى إحباط الإنجاز السياسي الذي تعمل «إسرائيل» على تحقيقه، عبر تكبيد الاحتلال خسائر بشرية، أو عبر إطالة أمد حالة الطوارئ في المنطقة المحاذية لغزة، وصولاً إلى مركز البلاد كي تعطل الحياة العامة. أو من خلال ضرب العقيدة العسكرية «الإسرائيلية»، القائلة «تدار الحرب في أراضي العدو».
عملياً، سعت معركة سيف القدس إلى توجيه ضربة استباقية فلسطينية، لذا بدأت المعركة في صميم ما تعتبره «إسرائيل» «عاصمتها الأبدية»، أيّ القدس، حيث بلغتها الصواريخ الأولى كما بلغت تل أبيب. أما الأسلوب الآخر، فهو السعي إلى إنزال أقصى الأضرار الممكنة، بشرياً ومادياً، بـ «إسرائيل» كي ترتدع وتخفق هي أيضاً. يلعب الإعلام ورواية الحرب دوراً جوهرياً أبعد من حصره في الجانب المعنوي فقط، جانب سياسي، وهي معركة عادةً ما تشهد تفوّقاً إعلامياً شعبياً فلسطينياً.
طوّرت «إسرائيل» في الأعوام الأخيرة نموذج «الحرب الهجينة» الذي تعزّز بعد عملية سيف القدس المتزامنة مع هبّة الكرامة في الداخل الفلسطيني.
عدم التكافؤ مسألة جوهرية في تعريف الحرب الاستباقية، إذ يلغي عدم التكافؤ الصارخ الحاجة إليها، لا يمتلك الفلسطينيون القدرة الاستخبارية المبنية على التكنولوجيا العالية والذكاء الاصطناعي، كما تجعل حالة السيطرة والتحكّم بالمجال الجوّي والبحري والبرّي والفضائي من الاستراتيجية الاستباقية أمراً غير ضروريٍ من أجل الحسم.
دون أن تتخلّى عن أيّ مركّب من عقيدتها العسكرية العدوانية الاستباقية، ونتيجة الحرب غير المتكافئة، وعدم قدرة «إسرائيل» على حسمها سياسياً، وعجزها عن حسم قضية فلسطين أو حتى تجاوزها، طوّرت «إسرائيل» نماذج حروب عدوانية حديثة العهد، هي «المعركة بين الحروب»، أيّ المبادرة إلى عدوان كلّ بضع سنوات، بغرض استنزاف الطرف الفلسطيني المقاوم، وفرض شروط سياسية عليه، هي استراتيجية مبنيّة على اللاحلّ السياسي مع الفلسطينيين.
في نفس السياق؛ طوّرت «إسرائيل» في الأعوام الأخيرة نموذج «الحرب الهجينة»، الذي تعزّز بعد عملية سيف القدس المتزامنة مع هبّة الكرامة في الداخل الفلسطيني، ومع معركة صمود أهالي الشيخ جراح في القدس. تهدف الحرب الهجينة إلى استخدام كلّ الأدوات والأذرع العسكرية والاستخبارية والاقتصادية والإعلامية وأدوات السيطرة، العلنية والسرية، من أجل إخضاع العدو قبل بدء الحرب الحقيقية المعلنة. تتميّز الحرب الهجينة بأنها متعددة الجبهات والأدوات، وطويلة الأمد، وغير معلنة لكنها دائرة، لا تتحقق أهدافها في المدى القصير، أو عبر العمليات العسكرية فقط، حتى لو اقتصر الهدف على استنزاف قوّة الطرف الفلسطيني.
في عدوانها الأخير على حركة الجهاد الإسلامي؛ اعتمدت «إسرائيل» مفهوم الخديعة أكثر من مفهوم الحرب الاستباقية، وقد بثّت على مدار أيام أنّ مجتمعها في حالة هلع؛ كان ذلك جزءاً من مسعى العدوان، وهو عدوان بخلاف جولات سابقة لم يحصل نتيجة ردّ فعل «إسرائيلي» على عملية فلسطينية، بل استراتيجياً وبمفهومه السياسي الإقليمي يندرج ضمن التلويح بحرب استباقية. إذا نظرنا إلى العدوان الأخير في سياق سباق التموضع الإقليمي والعالمي، لا تبدو الأولوية «الإسرائيلية» العليا استهداف الجهاد الإسلامي، بل استهداف أحد «وكلاء» (بروكسي) إيران، وعليه كان هدفها إعادة النفوذ الإيراني إلى حدود إيران ليس إلا، ومنع تطويق «إسرائيل»، أو تطويق مصالحها الآخذة في الاتساع والازدياد.
يتمثل التحدّي «الإسرائيلي» الراهن؛ الأكثر آنيةً؛ في السيطرة على حقول الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وبالتحديد المتنازع عليها مع لبنان، التي تسبّب تصاعد التهديدات العسكرية بين «إسرائيل» وحزب الله. ربما التهديد بالحرب لعبة دبلوماسية، ولو جزئياً، وربما تلويح حقيقي بالصدام العسكري المباشر الذي تخشاه «إسرائيل». بكلّ الأحوال؛ ترى «إسرائيل» في احتياطي الغاز فرصة لإسالته ومن ثم تصديره إلى أوروبا. أيّ أنها تجده فرصة تاريخية لا تعوّض، في أعقاب الحرب الأوكرانية، والأزمة العالمية الناتجة عنها، وبوادر نشوء نظام عالمي جديد تريد «إسرائيل» فيه موقعاً متقدّماً. طبعاً، قد يتحوّل الصراع إلى مواجهة عسكرية، وقد تأتي المفاوضات غير المباشرة بالاتفاق.
بناء عليه، أرادت «إسرائيل» من عدوانها الأخير ضمان هدوء مجمل الجبهة الفلسطينية، وكان من منظور إقليمي حرباً استباقية تسعى إلى تحييد الأطراف الفلسطينية عنها، إذ تريد «إسرائيل» حصد نتائجها على المدى القريب، كي لا تخوض حرباً محتملة متعدّدة الجبهات. أيّ أنها أرادت إدارة نموذجٍ متكاملٍ تهدّد ضمنياً باستخدامه في لبنان، قائم على البعد الاستخباري الأكثر حداثة، والمنظومة الدفاعية والهجومية، والمباغتة، في ظلّ تطويرها منظومتها الدفاعية المضادة للصواريخ والمسيّرات.
في هذا السياق وإمعاناً في عدم التنازل عن فكرة الحرب الاستباقية، كشف جيش الاحتلال عن تحضيراته التي سبقت العدوان الأخير بأيام، مستعرضاً «استخدام طائرات أف35 على ارتفاع 24 ألف قدم وتحضير بنك أهداف مباشر، ثم هاجمت في ذات اللحظة عشرات الأهداف العسكرية وحمت حدود إسرائيل 360 درجة». لكن في المحصّلة اكتشفت «إسرائيل» من الرسائل المضادة أنها مكشوفة كما لم تكن من قبل، وأنّ إمكانية التصدي بعد استيعاب الضربة الاستباقية واردة، فهي استراتيجية قائمة في معادلات الصراع غير المتكافئ.
نقطة ضعف استراتيجية «إسرائيل» العدوانية تتمثل في كونها مكشوفة، فـ «بنك الأهداف» الذي تجهّزه دولة الاحتلال بات متوقّعاً فلسطينياً، كما لا تتصرف الفصائل الفلسطينية وفق المخططات «الإسرائيلية»، بل لديها قوة مناورة ورصد وتحكّم تردع التفوّق الإسرائيلي العسكري، وتبطل مفعوله ولو جزئياً، بالإضافة إلى اختلاف أولوياتها عن أولويات «إسرائيل». «إسرائيل» مكشوفة، وسياساتها وغاياتها مكشوفة أيضاً، حتى تحركاتها العدوانية مكشوفة، وبالذات في عصر الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، التي تصفها المؤسسة الإسرائيلية الأمنية بـ «المخلّة بالتوازن».
في خطابه بعد وقف إطلاق النار مع الجهاد الإسلامي ركّز لبيد على السلام الاقتصادي،»إما ترضوا به وإما سيكون مصيركم العدوان»، من هذا المنطلق انطلقت شاحنات المواد التموينية والمازوت والبنزين ومواد البناء إلى غزة، وفتحت المعابر وكأنّ شيئاً لم يكن. وبينما الشعب الفلسطيني يلملم جراحه ويدفن شهداءه وأطفاله، ويعاني من الدمار، اغتالت «إسرائيل» إبراهيم النابلسي ورفاقه في نابلس، دلالات على حرب استنزاف الفلسطينيين والاستفراد بالجبهات، لكن لم يُحسم شيء على المستوى الاستراتيجي، سواء العسكري أم الحلّ السياسي.
الخلاصة؛ «إسرائيل» ليست مأزومة على الصعيد التكتيكي، ولديها القدرة على إدارة المعارك والمبادرة إليها، كما تتفوّق عسكرياً واستخبارياً ومعلوماتياً، لكنها مأزومة استراتيجياً، فهي لا تملك مخرجاً من القضية الفلسطينية، أيّ أنها لم تستطع الانتصار أو الحسم أو حتى تخطيها. لذا بعد كلّ عدوان على الشعب الفلسطيني يتكشّف أنّ الأمور الجوهرية في هذه المعادلة لم تتغيّر.