اقتحام مدن الضفة ومخيماتها وأسبابه…
} سعاده مصطفى أرشيد*
خلال فترة قصيرة نفذّ شبان المقاومة الفلسطينية إحدى عشرة عملية استهدفت جيش الاحتلال في الضفة الغربية، جاءت هذه العمليات في معظمها كمبادرة مقاومة من نوع جديد، وفي بعض الأحيان رداً على سياسة الاقتحامات الليلية لجيش الاحتلال في جنين ومخيمها وجوارها، وفي نابلس وقبر يوسف وفي أنحاء الضفة بكاملها وصولاً إلى غور الأردن، إنها أجواء حربٍ غير معلنة. كانت الطريقة التي توافقت عليها الحكومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال برعاية عربية ودولية من المانحين للحد من عمليات المقاومة (الإرهاب بمفرداتهم) هي طريقة السلام الاقتصادي الذي فشلت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة في تنفيذه لأسباب لها علاقة بالفساد المستشري وضعف الأداء الإداري، فيما كان للحكومة الفلسطينية الحالية الفشل الأكبر حيث ذهبت وعودها الكبيرة التي أطلقتها في أيامها الأولى أدراج الرياح، فلم تخطُ باتجاه تطوير الصناعة أو فتح أسواق جديدة، ولم تدعم الزراعة ولم تبحث عن مصادر مياه كانت قد وعدت بها مزارعي الأغوار. تتذرّع الحكومة حيناً بجائحة كورونا وحيناً آخر بالأزمات التي تسبّبت بها الحرب الروسية الأوكرانية التي أدّت إلى ارتفاع الأسعار بما يفوق قدرة المواطن العادي، وكان آخر ما حرّر من أفكار هو فتح أبواب العمل للعامل الفلسطيني ليعمل في المشاريع (الإسرائيليّة) في الداخل المحتلّ وحتى في المستوطنات حيث يتقاضى أجوراً مرتفعةً نسبياً عن مثيلتها في الضفة الغربية، وذلك عن طريق إصدار إدارة الاحتلال المسؤولة عن الضفة الغربية أذونات (تصاريح) عمل تسمح لهم بتجاوز نقاط الحدود.
تطوّرت الأفكار هذه باتجاه تفعيل المادة 34 من اتفاق باريس الاقتصاديّ 1994 بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، الذي ينص أن على (إسرائيل) أن تجبي من عمال الضفة الغربية العاملين في المشاريع (الإسرائيلية) ضريبة دخل تخصم من أجورهم ويتمّ تحويل 75% منها لوزارة المالية الفلسطينية فيما تذهب 25% منها لوزارة المالية (الإسرائيلية) عمولة على تقديمها هذه الخدمة، وارتبط ذلك بقرار التوقف عن دفع أجور العمال نقداً في نهاية كلّ أسبوع، وتحويلها شهرياً لحساباتهم في البنوك الفلسطينية مما أثار حفيظة العمال لدرجة تهديدهم بالإضراب عن العمل.
خلاصة القول إنّ كلّ هذه الخطط والإجراءات الاقتصادية لم تكن مجدية في وقف أعمال المقاومة وإنهائها لا بل تسير العمليات باتجاه متصاعدٍ وأكثر عنفاً ومقدرةً لا بل وتمتدّ إلى مناطق لم تشهد أعمال مقاومة منذ زمن طويلٍ كما في الداخل الفلسطيني، فلم تستطع «إسرائيل» خلال كلّ الزمن الماضي ضرب وحدة الشعب الفلسطيني حتى مع كلّ الفوارق (المصطنعة) بين فلسطينيي الضفة الغربية والداخل الفلسطيني في الدخل والعمل وأنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية، إلا أنّ هذا المجتمع الفلسطيني المعمول على تفتيته وتجزئته لا يزال مجتمعاً واحداً له هوية واحدة وثقافة في معظمها مشتركة، وعائلاته مقسّمة، حسب خطوط الهدنة لعام 1948 لا في الثقافة أو بالانتماء.
رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال قال في تغريدةٍ له الأحد الماضي عقب الهجوم على حافلة الجنود في غور الأردن «إنّ سبب ظهور المقاومة الجديدة وتصاعدها ناتج عن ضعف السلطة الفلسطينية وارتخاء قبضتها الأمنية، ولكن أيضاً بسبب هزال الأداء الحكومي الأمر الذي شكل هذه البيئة الحاضنة للإرهاب (المقاومة)».
ليل الاثنين الماضي كان برنامج جيش الاحتلال الليلي من نصيب جنين وحسب ما قال الإعلام (الإسرائيلي) إنّ الجيش اقتحم المدينة بمئة وعشرين آلية عسكريةً إضافةً الى عدد من المركبات المدنية التي تسلّل بها مستعربون؛ وأنّ عدد الأفراد الذين نفذوا الاقتحام يصل الى 2200 عنصر، وذلك في مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ومخيمها الخمسين ألف نسمة، كلّ ذلك لمحاصرة بناية وهدم منزل شهيد، ثم الاشتباك مع مقاومين من الفتية والشباب الذين هم في العشرين من أعمارهم او ما دون ذلك، أعدادهم غير معروفة، ولكنها في غالب الأمر دون المئة شاب وفتى، حيث أن هؤلاء ليسوا بعساكر محترفين ولا تساوي بينهم في العدد او السلاح او الكفاءة القتالية مع جيش الاحتلال، لا تساوي في قواعد الاشتباك وفي المهارات العسكرية والقتالية فهم شباب تدرّبوا على أيدي بعضهم البعض على إطلاق الرصاص غير الموجود بوفرة وتتطوّر مهاراتهم من خلال التجربة ودفع أثمانٍ غاليةٍ في أعمارهم القصيرة، لديهم الرغبة العارمة بالقتال بشجاعة حيث انكسر حاجز الخوف في دواخلهم وأصبحت مسألة الحياة والموت لديهم سواء، هؤلاء لا تنظيم سياسي لهم وإنما يرون في حقهم السليب هو الناظم لعملهم، وإنْ تلقوا دعماً من تنظيم أو جهة سياسية، كما أنّ أداءهم إدانةٌ وإعلان فشلٍ كبيرٍ للتنظيمات التي أصبحت عبئاً على الشعب الفلسطيني وكذلك دليل على تآكل تمثيل السلطة لهذا الجيل الجديد.
تحليل ما تقدّم يقود إلى أنّ الأداء (الإسرائيلي) مرتبط بما هو أكثر من الوضع الداخليّ ليصل للإقليمي، خاصة لبنان وذلك في مسألتين الأولى أنّ احتمال الاشتباك مع لبنان قائم وهم يريدون ضبط ظاهرة المقاومة والقضاء عليها قبل الدخول في المواجهة اللبنانية المحتملة، والثانية أنّ هذه الآليات الضخمة في حجمها وعددها في اجتياحها لمدينة صغيرة يمكن فهمه على أنه تدريب ومحاكاة للمعركة المحتملة مع لبنان.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.