نافذة ضوء
الأمم العظيمة عظيمة بنفسيّاتها وعقليّاتها
والأمم الحقيرة حقيرة النفسيّة والعقليّة
يوسف المسمار*
اتجاهان وأسلوبان ومنطلقان
الحياة صراع وللصراع اتجاهان وأسلوبان ومنطلقان: أما الاتجاهان فهما: اتجاهٌ الى الأمام يُسمّى صراع الرقيّ، واتجاهه الى الوراء يمكن تسميته بصراع التخلّف او التقهقر والرجعة.
والأسلوبان هما: أسلوب يهدف الى تعزيز الفضيلة وتكريس فعل القيَم النبيلة نستطيع تسميته بالصراع الفضائلي، وأسلوب لا يعترف بفضيلة ويسخر بكل ما يُسمى مكارم أخلاق يمكننا تسميته بصراع الهمجية والانتصار للرذائل والمثالب.
وأما المنطلقان فإنهما: منطلقٌ من اصالة الانسان الى ما يجعل حياته أجمل وأرقى وأسمى ويمكننا أن نطلق عليه صراع الوعي الانساني السليم لوجوده وحياته والغاية العظمى من الوجود والحياة وما يكمن في وجود الانسان وحياته من أسرار الكون وحقائقه.
ومنطلقٌ من الظن والتخمين يمكننا نعته بالصراع الوهميّ الذي لا يحصد جنوده الا المزيد من الأوهام مهما استفحلت المكابرة، واستهول الغرور، واشتدت الحماقة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم نصل الى حقيقتين ثابتتين لا تغيبان عن عقلٍ سليمٍ مدرك مميّز، ويستحيل أن يدركهما معتوهٌ مجنون أو نائم مهلوس أو ميتٌ تحرّكه الرياح وتتقاذفه العواصف.
وهاتان الحقيقتان للصراع هما: حقيقة الصراع الصاعد بالإنسان الى أسمى درجات الصعود التألقية، وحقيقة الصراع الهابط بالكائن البشري الى أحطّ دركات الهبوط البهيمية الهمجية المنطفئة رماداً وغباراً.
فأبناء الصراع الصاعد منتصرون بالأصالة والفضيلة والرقي حتى ولو سقطت أجسادهم في الصراع، وأبناء الصراع الهابط خائبون مقهورون بالتخلف النفسي والهيجان الرذائلي، والاستكبار الغبائيّ حتى ولو طال عمر أجسادهم الى بلوغ حالة التحلل والتآكل المنتنة التي لا تتقيأ وتستفرغ الا الخرف والهذيان ومبهم الدندنات.
وهيهات أن تتساوى أفعال النفوس الأصيلة الفاضلة الراقية مع زيف النفوس الممسوخة المشوّهة الشريرة مهما كثر المجمّلون، وتعددت أساليب التمويه ووسائل التجميل ومساحيق التزيين، وطال زمان تحسين الأباطيل.
فالجماعة الواعية الفاهمة الكريمة النفسيّة عظيمةٌ بكرامة نفسيتها مهما قلّ عددها. والجماعة الفاسدة النفسيّة حقيرةٌ بفساد نفسيتها مهما كثُر عددها وتكاثر أتباعها وتضخم عدد الخائفين من شرور إجرامها» ففي حبة القمح ما ليس في بيدر من التبن، وفي الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة»، كما قال نابغة أمتنا جبران خليل جبران.
وشتان شتان ما بين القمح والتبن، والغصن المزهر والغابة اليابسة، وبعدٌ كبير كبير ما بين من ينطلق الى الأمام ويرتقي، وبين من يتقهقر الى الخلف ويركد ويتآكل ويتعفن ويتلاشى.
فبين جماعة الوعي الفاهمة وجماعة الغيّ الواهمة ينتصب الخيط الفاصل بين البداوة الهمجية والحضارة التمدنية.
فاذا انفصلت بعض النفوس المتخلفة عن بيئة البداوة الهمجية ودخلت في بيئة الحضارة التمدنية اتخذت اتجاهين اتجاه الخلاص من ظلمات بداوة التخلف، او اتجاه إطفاء مشاعل حضارة التمدن.
أما اذا انفلتت بعض النفوس من بيئة الحضارة التمدنية وسقطت في دهاليز الهمجية العفنة، فليس لسقوطها الا اتجاه واحد وحيد هو اتجاه الانغلاق الخانق الذي يقضي على الروح والنفس والعقل وكل ميزة انسانية.
اذاً، هناك بيئتان: بيئة البداوة المتخلفة الهمجية وبيئة الحضارة الراقية التقدمية الانسانية. ولكل بيئة ثقافتها الروحية والنفسية والعقلية التي ينشأ عليها مجتمعها أو جماعتها، ويتغذى منها ويتربى عليها أفرادها. والفرق بين الحضارة والهمجية هو الفرق نفسه بين الحق والباطل. بين العدالة والظلم. بين الرحمة والنقمة. بين الانفتاح الانساني على الوجود والحياة والكون وخالق كل شيء، وبين الانغلاق البهيميّ على الغريزة والشهوة والاستسلام لليأس والخمول والملل والزوال.
أساس الحضارة ثقافة الأمم الانسانية التي تقوم على الحق والعدل والتراحم الإنساني مهما كانت أدواتها المادية بسيطة وقليلة. فاذا انعدمت هذه القواعد – القيم في الأمم، سقطت الحضارة الانسانية وانعدمت وأطلت الهمجية وثقافتها بجراثيم الباطل والظلم والاحقاد السامة القاتلة، وهبطت الأمم الى عهود التوحش مهما كان مخزونها كبيراً من وسائل الدمار.
فالأمم الحضارية العظيمة عظيمة بطبيعتها الخيّرة وبنفسياتها العزيزة التي تعتز بالحق والعدل والتراحم الانساني، والأمم الهمجية الحقيرة حقيرة بطبيعتها الشريرة وبنفسياتها المجرمة المتغطرسة بالباطل والظلم وانتهاج جرائم العدوان.
*باحث وشاعر قومي.