أسعار العملات والفائدة مرآة الحرب العالميّة
ناصر قنديل
– أما وقد تغيرت وتحولت الحرب العالمية الدائرة في اليابسة والمياه على مساحة العالم في حروب تبدو صغيرة، لكنها تدور حول القضايا الكبيرة، ومحورها لمن اليد العليا في العالم الجديد، وكيفية توزع السلطة والمال فيه، تحت سقف الذعر من فرضية حرب نووية تطيح بكل شيء ويخرج منها الجميع خاسراً، فصارت حرباً اقتصادية معلنة محورها موارد الطاقة، وساحاتها الرئيسية دول أوروبا، فقد دخل العالم مرحلة جديدة لا تجد فرص فهمها إلا بمفردات يراد لها أن تبدو تقنية ومعقدة لحجب الحقائق المرة عن الشعوب، وهي في الواقع قابلة للتبسيط وسهلة الفهم إذا تم تجريدها من فذلكات متعمّدة لحصر البحث واتخاذ القرار فيها ضمن دائرة نخبة ضيقة تقوم بتسويقها بصفتها إجراءات هادفة لتخفيف أعباء الأزمات عن الشعوب، مثل أسعار الفائدة التي تعتمدها البنوك المركزية، والتعامل مع أسعار صرف العملات.
– النتيجة الأولى التي يسهل على أي مراقب رؤيتها، هي أنه للمرة الأولى تتخذ حزمة إجراءات شديدة القسوة مالياً، من جانب الدول الممسكة بالنظام المصرفي المالي بحق دولة في حالة حرب، تسمى عقوبات. وهذه الإجراءات تقوم عملياً على السطو على موجودات هذه الدولة لدى المصارف العالمية الكبرى، والحؤول دون صاحبها والوصول إليها من جهة، وعزله عن نظام التعامل المصرفي والتجاري، والمقصود هنا روسيا طبعاً، وتأتي النتيجة معاكسة لإرادة الجهة التي اعتادت القدرة على تدمير الاقتصادات في الدول التي تخالفها، فلا يسقط الاقتصاد الروسي بالضربة القاضية، ولا يدخل في مسار الاستنزاف، وينجح باحتواء الصدمة، والمعيار وفقاً لعلوم الاقتصاد الغربي، هو سعر صرف العملة، الذي كان في كل تجربة مماثلة يفقد نسباً تصل إلى 90% من قيمة العملة المستهدفة، بينما جاءت الحالة الروسية كحالة فريدة تنجو من هذا المسار التآكلي لسعر العملة، بل تنجح بتحقيق عكس ذلك، وتكون النتيجة أن يتحسن سعر صرف عملتها مقابل الدولار بنسب تراوحت بين 20 و50 %.
– عند النظر إلى الجدول العالمي لأسعار العملات، والدولار هو العملة الوحيدة التي لا ترتبط إلا بذاتها، وهو العملة الوحيدة التي يتمكن صاحبها من طباعة ما يشاء منها دون أن يرف له جفن، ما دامت تستقطب ودائع الاقتصاد العالمي وعائدات شركاته وحكوماته، سواء في تداول عاداتها أو في تخزين ودائعها، لكننا هذه المرة سنشهد شيئاً جديداً، في الجدول العالمي سيظهر أمامنا نصفان، نصف أخضر، حيث يشير اللون الى ارتفاع الدولار مقابل العملات الغربية بلا استثناء، ونصف أحمر يظهر تراجع الدولار أمام العملات الشرقية، فسعر صرف الدولار يتحسن في مواجهة اليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني، ولكنه يتراجع أمام الروبل الروسي واليوان الصيني والروبية الهندية، وعند النظر إلى جداول نسب التضخم وتحركها، وهي تعني فقدان العملة لقدرتها الشرائية، أي غلاء الأسعار، سنجد حركة تصاعدية لنسب التضخم غير مسبوقة من ثلاثين عاماً في الدول الغربية، ونسب محدودة الأثر في الدول الشرقية ناتجة عن نتائج التشابك بين اقتصادات العالم وتأثرها ببعضها البعض، أكثر مما هي ثمرة أزمات محلية. وهذا يظهر عندما ننظر في تحرك نسب أسعار الفائدة في البنوك المركزية، فسوف نشهد تضاعفها مرات عديدة خلال عام واحد، بينما لم تزد الى الضعف ولا في أي بلد من دول الشرق، بل كان سقف الارتفاع هو 50%، وأسعار الفائدة هي طريقة البنوك المركزية في سحب الأموال من الأسواق بإغرائها بأسعار فائدة عالية، بهدف زيادة الطلب عليها في الأسواق أملاً بتحسن أسعار صرفها، فتكون النتيجة تجميد الاقتصاد بسبب نقص الاستثمارات والتمويل المصرفي، وانخفاض عرض السلع، ومزيد من ارتفاع الأسعار.
– المشكلة تكمن في أن الإجراءات لا تنجح بذاتها في ظل كل الظروف، بل بمقدار معالجتها لأساس المشكلة، فعندما تكون المشكلة هي زيادة الودائع وتدفقها فوق طاقة الاقتصاد على الاستيعاب يجدي رفع سعر الفائدة لإعادة التوازن المالي المنشود، لكن عندما تكون المشكلة بنقص تدفق الطاقة إلى الأسواق وتسبب ارتفاع أسعارها بارتفاع أسعار السلع، فإن كل ما يفعله رفع سعر الفائدة هو تجفيف إضافي لموارد الاقتصاد لحساب زيادة مصطنعة في قدرة الدولة على الإنفاق بالمزيد من الاستدانة، كما تمهد لتفعل رئيسة وزراء بريطانيا لشراء سمعة طيبة لشهور وترك الاقتصاد للانهيار بعد ذلك، ولذلك فإن زيادة أسعار الفائدة في روسيا والصين والهند هي خطوات صحيحة لأن كلفة الإنتاج لم ترتفع، لأن كلفة موارد الطاقة لم ترتفع، والذي ارتفع هو التدفق المالي الناجم عن النزوح من الدولار واليورو في ظل تعسف نظام العقوبات وعنصريته، أما حيث التضخم، أي ارتفاع الأسعار نتيجة لارتفاع كلفة الإنتاج الناتج عن ارتفاع كلفة الطاقة، فيكون الحل هو بموارد طاقة بسعر مناسب، واذا لم تتيسر من غير روسيا فهو بالتسوية والتفاهم مع روسيا، تماما كما هو الحال عندما يؤدي انعدام الثقة الى هلع في الأسواق، فكل ما يتم ضخه في الأسواق ولو كان أضعاف الطلب التقليدي، تمتصه السوق خوفاً من الغد، ولا تستعاد الثقة الا بمعالجة سبب فقدانها.
– العالم الذي يسجل تحولات كبرى بحجم ما نشهده من مقدمات أزمات بنيوية قابلة للانفجار الكبير خلال شهور، ستبدأ في أوروبا لكن أميركا ليست بمنأى عنها، يشهد تأقلماً نحو نهوض مقابل في دول الشرق، وخصوصاً روسيا والصين والهند، عشية حقبة مالية جديدة ستشهد حكماً ولادة أسواق مصرفية جديدة، وربما عملات جامعة جديدة، تحقق التوازن المالي الموازي للتوازن السياسي والعسكري والاقتصادي.
– العالم المتعدد الأقطاب صار حقيقة غير قابلة للكسر.