أخيرة

نافذة ضوء

التفسّخ الروحيّ يتطلّب نهضة روحيّة فكريّة ثقافيّة اجتماعيّة

} يوسف المسمار*

 بدلاً من التركيز على الفكرة المحيية المنعشة الدافعة الى الفعل، كثرت التنظيرات والثرثرات عن الشكليات القانونية أو غير القانونية، والمقياسية والقياسية بدل الفكرة التي تحرك النظام، والمثال الأعلى الذي تتجه جهود العاملين المصارعين إليه ببطولة مؤيدة بصحة العقيدة متجاهلين حالة الأمة التي قال عنها سعاده في مقالته «وطن قوميّ للشركس» نشر في جريدة «سورية الجديدة» في سان باولوالبرازيل، العدد 22، 29/7/1937حيث قال:

 «في طور انحطاط سورية الأخير دخلت سورية منذ زمان هجرات كبيرة، كما خرجت منها هجرات كبيرة. وهذا التحوّل في تركيب سورية الاتنولوجي أوجد اضطراباً في حياة سورية الاجتماعية وفي نفسيتها الاجتماعية. وفي هذه الحالة من عدم الاستقرار تفسّخت وحدة الشعب السوريّ النفسيّة، خصوصاً بما اختلط مع هذا التداخل الاتنولوجي من تداخل ديني روحي فتسارع الى الشعب السوري الانحلال الاجتماعيالنفسي الذي لا يمكن أية وحدة سياسية مبنية على مفاوضات ومعاهدة مع دولة أجنبية إزالة حقيقته وتعطيل التفكك القومي الذي يؤول إليه».

الى أن قالعدّلت الهجرات إلى سورية ومنها التركيب الاجتماعيالنفسي (العقلي). فأصبحت سورية مجزأة بين أديان وبين أقوام. فمسلمون ومسيحيون ودروز، متشعّبون الى مذاهب وشيع عديدة. وسوريون وأكراد وشركس وعرب وأرمن. بتمركز النزاع الروحيّ في القضايا الدينية بقيت قضية وحدة الأمة مجهولة. الدين كان الأمة. وفي التقاليد الإسلامية المسلمون أمة فيخرج من معنى الأمة غير المسلمين. ووجود هذا الاعتقاد عند الجماعات الدينية لا يعني شيئاً غير تأسيس الأمة على الدين، وتأسيس الأمة على الدين لا نتيجة له غير تحويل الأمة المتعددة الأجيال إلى أمم متعددة. والدول التي أنشأتها فرنسة في سورية، كلبنان والعلويين والدروز، أوجدتها الإرادة الأجنبية لتثبيت هذه القاعدة في سورية، ويظل العامل الروحي مجزءاً بين العوامل الدينية فلا يكون سبيل لصهر الأقوام الإتنولوجية، لأن الطريقة الوحيدة لصهر هذه العناصر هي طريقة تسليط عامل روحي ـ اجتماعي ـ ثقافي عليها، واختلاف الأديان في سورية وجعل الدين محور كل حياة قضيا بتجزؤ روحية الشعب السوري واجتماعه وثقافته، فامتنع العامل الجوهريّ لصهر الجماعات الإتنولوجية».

لقد اكتشف سعاده جرثومة المرض الخبيث المميت الذي هو التفسّخ الروحي الناشئ عن النزاع الروحي المفتت للروح والاجتماع والثقافة، والمؤدّي الى الخراب الوجودي الحياتي المصيري لكيان الأمة، وانطلق من هذا الاكتشاف لتحضير الدواء الشافي والوسيلة الأنجع للمعالجة مخاطباً العقول الواعية، ومبيّنا لها بالصراحة الكلية مشاكل الوحدة السورية القومية الأساسية التي إذا لم تحل حلاً صحيحاً سليما، فليس بإمكان أي حلٍ شكلي ثانوي أن ينجز ذلك، والطريقة الوحيدة لصهر عناصر الأقوام الإتنولوجية وتفاعلها في ما بينها هي تسليط عامل روحياجتماعيثقافي ينطلق من نظرة جديدة الى الحياة تتجه الى تحقيق وحدة الروح السامية، والمجتمع الناهض، والثقافة الحضارية الراقية المنفتحة على الإنسانية بكل المحبة والأخلاق الرحيمة والقيم السامية فوضع العقيدة فكرةً وحركةً بمبادئها الأساسية والإصلاحية والغاية، ثم رتّب لها الأشكال النظامية الثانوية من قوانين وتشريعات تتغير وتتطور بتغير الاحداث والظروف والازمان. وهذا ما أشار اليه في هذا الشأن حين قال:

«هذه هي مشاكل الوحدة السورية القومية الأساسية. أما الحكم والمركزية واللامركزية وتغيير الوزارات وغير ذلك من المسائل فهي شكلية. ولا يمكن أن يقوم حل شكليّ مقام حل أساسي. فلما بدأتُ أعالج قضية أمتي توجّهت إلى الأساس أولاً فوضعت المبادئ الأساسية لقضية الأمة السورية ثم رتبت الأمور الشكلية لتنطبق على الأساس».

لقد كانت رسالة سعاده من أجل تحقيق نهضة عظيمة لأمة عظيمة نُكبت بأناسها ووطنها من داخل بتفسّخ روحيتها، ومن خارج باستغلال هذا التفسخ وتغذيته فتحوّل وطنها الى أوطان، وتمزق شعبها الى شعوب، ولا شفاء لها الا بيقظة روحية نفسية عقلية اجتماعية تعيد الى الأمة وحدة وجودها وحياتها الطبيعيين وحيويتها لتعود فاعلة في الوجود وعظيمة بنفسيتها وعقليتها بين الأمم، فتسنّ لنفسها ما تراه نافعاً من السنن لتقدمها ورقيها، وتستخدم كل وسيلة تتوافق مع عقليتها البديعة.

فالأمم العظيمة عظيمة بنفسيتها وعقليتها التي هي أساس كل ما يصدر عنها وليس باستيراد ما يصدر عن الغير، فليس بارتداء ملابس الأمم المتقدمة نصبح متقدمين، وليس بتقليد المبدعين نتخلص من التخلف، وليس بالدوران على محاور الشعوب الناهضة نحقق نهضتنا، وليس بلوائح التعليمات والإرشادات واقتباسات مخططات العلماء والمفكرين الأجانب وحفظها وتردادها على المسامع ننتقل من حالة انحطاط الى حالة نهضة، وليس بالدساتير والقوانين والأنظمة والترتيبات الشكلية نخرج من الظلام الى النور، بل نخرج الى النور فقط وفقط وفقط بوحدة الروح، وجلاء الوضوح، وجمال النفسية، وانطلاق العقل والعقلية، واعتماد البطولة الواعية المؤيدة بصحة العقيدة والثبات في الجهاد نغيّر التاريخ ونحتل المكان بالأعزاء.

*باحث وشاعر قومي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى