الشغور الرئاسي والحكومة المستقيلة… هل من غاية في نفس يعقوب؟
} باسكال فهد *
مع اقتراب موعد انتهاء ولاية رئيس الجهورية العماد ميشال عون في 31 تشرين الأول المقبل، وفي ظل عدم التوافق والمناكفات بين القوى السياسية على انتخاب الرئيس العتيد بالإضافة الى عدم حسم موضوع الأكثرية الغالبة لهذا الفريق أو ذاك، خاصة بعد تجربة الاستشارات النيابية الأخيرة الي أجراها رئيس الجمهورية في حزيران الماضي والتي أدّت الى تسمية الرئيس نجيب ميقاتي بأكثرية متواضعة بلغت 54 صوتاً أيّ أقل من النصف زائداً واحد، الأمر الذي يؤكد أنّ ما سُميّ بالأكثرية الجديدة التي نتجت عن انتخابات أيار 2022 لا تعدو أن تكون أكثرية وهمية ومجرد كتل نيابية صغيرة مشرذمة وغير قادرة على اتخاذ موقف موحد بدليل عدم تمكنها من الاتفاق على تسمية رئيس الحكومة، وأنّ ما قيل عن أكثرية مقابلة محسومة بعد انتخابات رئيس ونائب رئيس المجلس وهيئة مكتبه ليس أمراً يمكن الاستناد اليه كثابتة نهائية بدليل عدم نيل الرئيس ميقاتي للأغلبية المطلقة من أصوات النواب.
وفي ظلّ ترقّب الجميع أن يشهد تشرين المقبل شغوراً رئاسياً في ظلّ حكومة مستقيلة مع تعثر لا يمكن انكاره في تشكيل حكومة جديدة، سواء أعاده البعض الى شروط وشروط مضادة أو اعتبره البعض نتيجة وجود رئيس مكلّف لا يتوانى عن المماطلة والتسويف في ملف التشكيل، فقد صار من الاحتمالات الراجحة أن يواجه لبنان معضلة شغور رئاسي في ظل حكومة تصريف أعمال، تريد كما يقول رئيسها، أن تتصدّى لتولي صلاحيات رئيس الجمهورية، ويقول مخالفوها أنهم لن يعترفوا لها بهذه الصلاحية.
لهذا كله صارت القضية الراهنة الأشدّ ضغطاً على المستقبل القريب، الإجابة عن سؤال دستوري، يطال مسألة انتقال صلاحيات رئاسة الجمهورية الى الحكومة الحالية المستقيلة في حال الشغور الرئاسي المرتقب، خاصة بعدما انقسمت الآراء فكان منها الدستوري الموضوعي ومنها ما صدر عبر الالتفاف على النصوص بحسب المصالح السياسية والطائفية التي لطالما طغت على ألأجواء في كافة الاستحقاقات.
وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ الفريق المؤيّد لفكرة انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى الحكومة إنما يستند الى نص المادة 62 من الدستور التي تنص على ما حرفيته:
“ في حال خلو سدّة الرئاسة لأيّ علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”.
أما الفريق المعارض لمسألة انتقال الصلاحيات تلك الى حكومة تصريف أعمال إنما ينطلق من نص المادة 64 من الدستور التي نصّت على ما يلي:
“لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة الا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”.
مع الإشارة الى أن هذا النص قد أدخل في متن الدستور نتيجة تعديلات “وثيقة الوفاق الوطني” أو ما يسمّى باتفاق الطائف.
بعيداً عن الانتماءات الحزبية والتجاذبات السياسية ومن خلال التمعّن في قراءة النصين المذكورين أعلاه واللذين يميّزان بما لا يقبل الشك بين الحكومة المؤلفة وفقاً للأصول بموجب مرسوم موقع من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، والحائزة على ثقة المجلس النيابي والمتمتعة بالدستورية الكافية لممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية “بالوكالة” في حال الشغور الرئاسي من جهة، وبين حكومة مستقيلة تنحصر صلاحياتها بتصريف الأعمال بالمعنى الضيّق والذي لا يتجاوز في مطلق الأحوال استمرار الوزراء باتخاذ القرارات الإدارية الروتينية البسيطة المطلوبة لتسيير الأمور العادية للمواطنين والحؤول دون شلل المرافق العامة،منعاً لحصول الفراغ المطلق في السلطة الى حين تشكيل حكومة جديدة.
صدرت عن مجلس شورى الدولة العديد من القرارات التي شرحت مفهوم “تصريف الأعمال” مكرّسةً المفهوم الضيق له إنطلاقاً للحدّ من صلاحيات السلطة التنفيذية طوال فترة إنعدام رقابة مجلس النواب عليها وفقاً لما تفرضه الطبيعة البرلمانية للنظام القائم، إذ استقر اجتهاد القضاء الإداري على اعتبار أنه “… بإمكان الحكومة المستقيلة القيام بالأعمال التي لا ترتبط بسياسة الدولة العليا والتي ليس من شأنها تقييد حرية الحكومة اللاحقة في انتهاج السياسة التي تراها أفضل للوطن….” (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 700 تاريخ 15/5/1995).
والأمثلة كثيرة على اعتبار أن الأعمال العادية التي تمارسها الحكومة المستقيلة ترتدي طابع العجلة ولا تنطوي على خيار سياسي ولا تثير صعوبة خاصة، وبعبارة أخرى تستطيع الحكومة المستقيلة اتخاذ التدابير التي لا تثير مراقبة أو مسؤولية الحكومة أمام المجلس النيابي،ذلك أنها لا تخضع لتلك الرقابة وبالتالي لا يمكنها الانفراد باتخاذ القرارات التصرفية.
أكثر من ذلك، فقد جرت العادة أن يلتزم رؤساء الحكومات المستقيلة بالمفهوم الضيق لتصريف الأعمال خلافاً لما يذهب اليه حالياً الرئيس ميقاتي الذي هو نفسه كان قد أصدر التعميم رقم 10/2013 تاريخ 19/4/2013 عقب استقالة حكومته، حيث طلب من جميع الوزراء “في حال أن ثمة قراراً إدارياً يدخل في نطاق الأعمال التصرفية التي تقتضي الضرورة اتخاذه خلال فترة تصريف الأعمال، إيداع مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال بشأنه على الموافقة الاستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء”.
وقد حذا رؤساء الحكومات المستقيلة اللاحقة حذو الرئيس ميقاتي،فأصدروا بدورهم التعاميم المشابهة للتعميم 10/2013.
انطلاقاً مما تقدّم، بات واضحاً أن الحكومة المستقيلة لا يمكنها ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية وإنّ مجمل التحليلات التي تذهب عكس ذلك لا تتمتع بالموضوعية ويحاول أصحابها الالتفاف على النصوص خلافاً للواقع لتحقيق مصالح سياسية وطائفية معينة.
وإذا كان صحيحاً أنّ الرئيس ميقاتي يتمسّك بالدستور بالذهاب الى القول إنّ حكومته المستقيلة تستطيع ممارسة صلاحيات فخامة الرئيس بعد انتهاء ولايته، ألم يكن من الأجدى لو أن دولة الرئيس تمسّك حقاً بالدستور من خلال اثبات الجدية بالسير بكل ما يلزم لتشكيل الحكومة؟
صحيح أنّ النص لم يحدّد مهلة زمنية للرئيس المكلف من أجل الانتهاء من عملية التأليف، ولكن القواعد القانونية يجب أن تفسّر وفقاً لمبادئ العدل والإنصاف المستوحاة من روح العدالة مع الأخذ بعين الإعتبار للظروف السائدة.
ففي وطن يعيش أشدّ الأزمات الاقتصادية والمالية حدّة حيث يرزح أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر،وسط جوّ من السلام الاجتماعي الهشّ، كان من واجب الرئيس المكلّف “المتمسّك بالدستور “أن يبذل كلّ الجهود الممكنة من أجل تأليف حكومة ذات توجّه إصلاحي، تنقذ البلد عبر وضع خطة تسير نحو الانتعاش الاقتصادي والمالي وتعمل مع جميع الأفرقاء لمنع المزيد من التشرذم الوطني والحدّ من الغرق.
فعوضاّ أن يعمل الرئيس المكلّف على إنقاذ البلد، نجده يستعمل التكليف كسلاح للمماطلة والتسويف لإنهاء عهد الرئيس ميشال عون تحت شعار ينتشر في الإعلام عنوانه، الحؤول دون تسجيل لأي إنجاز يحسب له، وفقاً لمخطط يتباهى به البعض، ويقولون انه تم وضعه والاتفاق عليه لإفشال العهد.
تبقى حجة وحيدة يمكن لأنصار التملص من تشكيل حكومة جديدة يختبئون خلفها لتبرير تولي حكومة منتتهية الصلاحية الدستورية، صلاحيات رئيس الجمهورية، وهي أنّ الدستور لا يعترف بالفراغ، وأنّ رئاسة الجمهورية مرفق عام لا يمكن تحمل تبعات شغوره، وأن ما هو متاح دستورياً لملء هذا الشغور هو تولي الحكومة، على ما فيها من نقاط ضعف وشوائب سلاحيات الرئيس، وهنا يجب ان يعترف هؤلاء أنهم سمعوا مسبقاً، وفي مهلة كافية للسير بتشكيل حكومة جديدة، انّ هناك فريقا مشاركا في الحكومة سيمتنع وزراؤه عن أي شراكة مفترضة ببمارسة صلاحيات رئيس الجمهورية، ما يعني انّ الإصرار على التنكر لأولوية تشكيل حكومة، والتسويق لتولي حكومة تصريف الأعمال صلاحيات الرئيس، تحوّل من النقاش حول الأهلية، الى النقاش حول القدرة، فهل تقدر حكومة تحتاج الى مشاركة وزرائها لتتمكن من المضيّ في ممارسة صلاحية رئيس الجمهورية، أن تفعل ذلك دون نصاب وزاري لن يكون متاحا؟
من هنا، وانطلاقاً من النوايا غير المعلنة للرئيس ميقاتي،تثور جملة من التساؤلات حول تشبّث هذا الأخير بفكرة انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى حكومته المستقيلة :
هل يمكن انتقال صلاحيات الرئاسة الاولى المتعلقة بالمفاوضات في ملف ترسيم الحدود الى حكومة تصريف أعمال، وهل ستتمكن دون شراكة وزرائها من القيام بذلك تجاوزا؟
هل يمكن للحكومة المستقيلة، التي لم تفلح يوماً بوضع خطة للتعافي، الانفراد في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وهل ستستطيع فعل ذلك في ظل انقسام وزرائها حول صلاحياتها؟
ماذا عن العفو الخاص؟
ماذا عن مواجهة التوطين ودمج النازحين في المجتمع اللبناني؟
وماذا عن متابعة ملف التدقيق الجنائي؟
ويبقى السؤال الأهمّ: هل سيقبل رئيس الجمهورية ترك صلاحياته الى حكومة “تصريف أعمال” في هذه المرحلة الدقيقة؟
ألم يكن من الأجدى إعمال النصوص الدستورية بحسب الغاية التي أعدت لها من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة إنقاذية وفقاً للأصول، عوضاً عن الالتفاف على الدستور لاستباحة صلاحيات الرئاسة الأولى؟
لماذا نذهب بعيون مفتوحة الى الفوضى الدستورية، ثم نحاول ايجاد الفتاوى لتبريرها كقدر محتوم، ودعوة اللبنانيين لتجرع كؤوس الفوضى والمخاطرة بتبعاتها الخطيرة، إلا اذا كانت هذه الفوضى هي الغاية، والغاية لم تعد في نفس يعقوب؟!
*محامية وناشطة حقوقية وسياسية