قمة سمرقند: تحوّلات دوليّة هامة و… وداعاً للأحاديّة القطبيّة
العميد د. أمين محمد حطيط _
في خضم المواجهة القائمة بين الغرب بقيادة أميركية والقوى والكيانات التي تستهدفها المجموعة الغربيّة، تلك الكيانات الممتدة على مساحة العالم وبشكل خاص في آسيا عقدت منظمة شنغهاي للتعاون، اجتماع قمة لأعضائها الثمانية (روسيا والصين والهند وكازاخستان وباكستان وأوزباكستان وقيريرغستان وطاجيكستان) وانضمت اليهم إيران بعد ان باتت عضواً مكتمل العضوية في المنظمة التي أنشئت في العام 2001 في الأصل للتعاون لتحقيق أهداف اقتصادية وامنية تعني أعضاءها ولإقامة علاقات بينية تخدم تلك الأهداف.
بيد أنّ قمة سمرقند 2022 ومن خلال ما دار على هامشها من لقاءات أو عقد فيها من اتفاقات وعقود ثنائيّة أو ما قرّرت وأعلنته في بيانها الختامي، نراها من خلال كل ذلك أنها قامت بقفزة مهمة في العلاقات الدولية وشكلت رداً واضحاً على بعض ما يعتمده الغرب الأطلسيّ بقيادة أميركا في عدوانه وحروبه على الدول والشعوب التي لا تستسلم ولا تسلم قيادها له. وهنا نذكر بشكل خاص الدول الرئيسية الثلاث المستهدفة من هذا الغرب وهي الصين وروسيا وإيران التي تخضع جميعها للكيد الأميركي المسمّى بتوصيفهم انه «عقوبات أميركية على تلك الدول».
لقد أقامت أميركا هيمنتها على العالم استناداً الى ما تملكه من سيطرة وتأثير في المجالات الرئيسية الثلاثة العسكرية والاقتصادية والسياسية، وقامت بإخضاع هذه الدولة او تلك عبر واحدة أو أكثر من وسائل التأثير والهيمنة التي توفرها قوتها في تلك المجالات بحيث إنها كانت تختار بين حرب تشنها أو حصار تفرضه او تجويع تحدثه ضد هذه الدولة أو تلك دون أن تراعي في سلوكياتها نواحي أو مبادئ او قواعد أخلاقية او إنسانية، فـ المهم عند أميركا كيف تخضع الآخر ولا قيمة عندها للإنسان في مجتمع الآخر. ومن ينظر في سلوكيات أميركا وبشكل خاص خلال العقود الثلاثة التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الثنائية القطبية في العالم وانتهاء الحرب الباردة يجد أنّ أميركا تسلط سيف قوتها العسكرية او الاقتصادية او السياسية على رقاب خصومها لتخضعهم لإرادتها أو تهوي بالسيف على الرقاب بحرب في الميدان او حصار في الاقتصاد او عزلة في السياسة.
وارتكبت أميركا خلال العقود الثلاثة الماضية اشد الفظائع عبر استراتيجية الإخضاع تلك وقلة هي الدول التي «تمردت» على الإرادة الأميركية ورفضت الخضوع لها وقاومت بشتى الوسائل المتاحة لها ذاك الطغيان الأميركي الذي لا يتوقف عند حد ولا يقيده قيد من أي نوع كان. وهنا يسجل في غربي آسيا للمقاومة وتالياً محور المقاومة الصمود والمواجهة في الميدان، كما يسجل لروسيا والصين سعيهما لإيجاد وسائل المواجهة التي تمنع أميركا من إحكام سيطرتها على العالم من خلال نظام عالمي احادي القطبية تبتغي أميركا إرساءه بقيادتها، ومن تلك الوسائل كانت منظمة شنغهاي ذات الطبيعة الاقتصادية في الأساس.
اذن نشأت منظمة شنغهاي في الأساس لتوفر لأعضائها فرصاً معقولة لضمان ممارسة حقوقها وسيادتها في المجال الاقتصاديّ والأمنيّ وللتفلت من النظم الأميركية الرامية للسيطرة وكان وجود روسيا والصين في عداد الدول المؤسسة لهذه المنظومة أمراً بالغ الأهمية لكون هذا الوجود يعني انتظام أحد اهم اقتصادين في العالم (الصين) وأحد أهم ٣ قوى عسكرية في العالم بما فيها القدرات النووية. ومع هذا بقيت منظمة شنغهاي تجمعاً دولياً ذا طبيعة اقتصادية محدود الفعالية قياساً على ما تملكه أميركا من تأثير حتى في المجال الاقتصادي.
بيد أنّ قمة سمرقند خرجت عن النمطيّة التي طبعت نشأتها ودخلت في نوع جديد من التعاون والتنسيق والتكامل الدولي الذي يتعدّى السقف الذي كانت تعمل تحته يوم النشأة لكنها لم تصل الى مستوى إقامة حلف كامل المواصفات كما هو حال الحلف الأطلسي بل حجزت مقعداً بين منزلتين، منزلة الحلف الكامل ومنزلة التعاون والتنسيق العابر أو المناسب. وهنا أهميّة هذه القمة في إعداد وسائل التصدي للسياسة الغربية بقيادة أميركية، وكان لافتاً اعتماد قمة سمرقند الى جانب الشأن الاقتصادي وهو الأساس في قيامها، واعتناؤها بالشأن الأمني وتالياً العسكري مع السياسي وهو المستجد في اهتماماتها، حيث كان لهذا الأمر نصيب مهم أقله في إرسال رسالة قوية الى الغرب، بأن دول المنظمة عاقدة العزم على إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب يحول دون نجاح أميركا في سعيها لإقامة الأحادية القطبية، ونسجل لهذه المنظمة بعد قمتها في سمرقند وبعد التوسّع في عضويتها ما يلي:
ـ جمعت المنظمة أهمّ الخصوم المستهدفين بالسياسة العدائية الأميركية وتشكل في هذه القمة بعد انضمام إيران اليها مثلث المواجهة والرفض الجدّي للهيمنة الأميركية أو للتسلط الأميركي على الدول والشعوب، وبات مثلث الصين – روسيا – إيران، مثلث قوة وفعالية يعول عليه في منع أميركا من تحقيق أهدافها الاستعمارية التسلطية.
ـ وطأت المنظمة لقيام نظام ماليّ عالميّ بديل للنظام المالي الأميركيّ الذي يتحكم بمالية العالم واقتصاده ووضعت الأسس والقواعد للاستغناء عن الدولار في التعاملات التجارية بين أعضائها واعتماد العملة الوطنية للدول الأعضاء في تلك التعاملات، وتكون المنظمة قد وجهت ضربة مهمة ذات تأثير مزدوج: إثر سلبي على الدولار الأميركي الذي قد يشهد قريباً عهد خسارة تحكمه بالسوق النقدي العالمي وأثر إيجابي على عملات الدول الأعضاء لجهة صيانة قدرتها الشرائية. وقد يؤرخ يوماً أنّ قمة سمرقند خطت بالأحرف الاولى نهاية سيطرة الدولار.
ـ أسست لإطار تعاون أمني دفاعي بين الأعضاء خاصة لمواجهة الإرهاب الذي يشكو منه العالم. وهو في الحقيقة والواقع إرهاب انشأته وتقوده أميركا وتستثمر فيه. وهنا تبرز أهمية ما اتجه إليه الأعضاء في بيانهم الختامي لوضع قائمة موحدة بالمنظمات الإرهابية والانفصالية التي تزعزع الأمن الإقليمي والدولي. تعاون نعتبره بالغ الأهمية والخطورة، يمكن ان يفتح الأبواب لولوج مجالات تعاون عسكريّ أوسع قد يدفع بالمنظمة الي وضع يشكل شبه تحالف عسكريّ دفاعيّ مع أننا نستبعد قيام حلف عسكريّ ببين دول منظمة شنغهاي لاعتبارات ايديولوجية وسياسية وميدانية متعددة، لكن يبقى مجرد التعاون والتنسيق في هذا المجال شأناً مهماً.
ـ أما في المجال السياسيّ فقد التزمت المنظمة سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخليّة للدول الأعضاء وللدول الأخرى وهنا تبرز أهمية وجود عضوين يتمتعان بحق الفيتو في مجلس الأمن وهما الصين روسيا حيث إن وجودهما يحول دون نجاح النهج الأميركي في اتخاذ مجلس الأمن مطية لتحقيق الأهداف الأميركية العدائية والتدخل في شؤون الدول الأعضاء.
وفي استخلاص إجمالي نستطيع أن نقول إن رسالة منظمة شنغهاي من سمرقند واضحة وقويّة باتجاه الغرب وبخاصة أميركا، رسالة تتضمّن عناوين أساسية ثلاثة. اولها ان سياسة العقوبات والحصار والحرب الاقتصادية لن تجدي، ثانيها ان الدول الأعضاء بصدد إقامة الأطر الامنية الدفاعية التي تقطع الطريق على أميركا في العبث بأمن تلك الدول، والثالث ان العزل والتطويق السياسي اللذين تنتهجهما أميركا ضد خصومها لن يكون لهما من الآن وصاعداً التأثير الذي ترغب به وتتمناه، وبالنتيجة نسجل في ذلك ان عالماً متعدد الأقطاب بدا فعلاً بالتشكل والظهور، هو عالم يقول وداعاً من غير عودة للأحادية القطبية الأميركية. وهنا لا بد من السؤال عن موقع العرب في هذا المشهد خاصة أن منهم من كانوا مساهمين أساسيين في مواجهة تلك الأحادية.
*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ