روسيا وأوكرانيا: حرب الوجود
} عامر نعيم الياس
وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً بشأن الإعلان عن التعبئة الجزئية في الاتحاد الروسي. ولفت بوتين إلى أنّ القوات الروسية تعمل على خطّ تماس يتجاوز ألف كيلومتر، مشيراً إلى أنها لا تواجه فقط تشكيلات «النازيين الجدد» في أوكرانيا، بل «في الواقع الآلة العسكرية الجماعية للغرب». وحذّر بوتين من أنّ «الغرب تجاوَز كلّ الخطوط في سياسته العدوانية المناهضة لروسيا»، مبيّناً أنّ الأمر «لم يَعُد مجرّد سماع مسؤولين غربيين مستهترين بشأن إمداد أوكرانيا بأسلحة هجومية بعيدة المدى، وإنّما بدأت القوات الأوكرانية بالفعل بقصف حدود مدننا في القرم وبيلغورود وكورسك»، وأضاف إنّ «واشنطن ولندن وبروكسل تدفع كييف مباشرة إلى نقل العمليات العسكرية إلى أراضينا»، متابعاً أنّ هذه الأطراف تقول صراحة إنه «يجب هزيمة روسيا بكلّ الوسائل في ساحة المعركة، مع ما يترتّب على ذلك من حرمان سياسي واقتصادي وثقافي، وبوجه عام، من أيّ سيادة، مع نهب كامل لبلدنا». كما تحدّث بوتين عمّا سمّاه «الابتزاز النووي» الحاصل، ليس لناحية قصف محطّة الطاقة النووية في زابوريجيا، والذي يشجّعه الغرب ويهدّد بكارثة نووية كما قال، فحسب، وإنّما أيضاً في «تصريحات بعض كبار ممثّلي دول الناتو حول إمكانية استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ روسيا»، وتَوجّه إلى «مَن يطلق مِثل هذه التصريحات» بالقول «أودّ تذكيرهم بأنّ بلادنا كذلك تملك أسلحة دمار شامل، وفي بعض أجزائها أكثر تطوّراً من نظيراتها لدى دول الناتو»، منبّهاً الغرب إلى أنه لا يخادع عندما يقول إنه مستعدّ لاستخدام الأسلحة النووية.
وبشأن قرار مناطق لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون إجراء استفتاءات للانضمام إلى روسيا، أكد بوتين تأييده لقرار سكّان هذه المناطق.
ويعكس إعلان بوتين التعبئة الجزئية في روسيا، بالتزامن مع تهديده باستخدام السلاح النووي لحماية وحدة روسيا، وتنظيم استفتاء في المناطق التي سيطرت عليها روسيا في جنوب وشرق أوكرانيا والتي تشكل 15% من مجمل مساحة البلاد البلغة 600 ألف كيلومتراً مربعاً، يعكس جملةً من الأمور أهمّها:
أولاً: اتخاذ القيادة الروسية قراراً بالانتقال من مرحلة «الـعملية الخاصة» إلى «إعلان الحرب» لحماية روسيا في مواجهة الغرب. فالعملية الخاصة هي عملية تعتمد على فئة معينة من الجيش، تنفذ عملاً عسكرياً محدوداً وفق الخطط، وهذا يفسّر البطء في العمليات العسكرية الجارية. أما الآن فقد دخلت المعركة مرحلة «الحرب»، وهي معركة شاملة تتعلّق بسيادة روسيا نفسها، مع ما يحمله ذلك من إمكانية التغيير الشامل في مقاربة هذا الملف سواء على صعيد الداخل الروسي، أو على صعيد شكل وحجم انتشار القوات، ونوعية السلاح المستخدم، وشكل وتواتر العمليات العسكرية وشدّتها، فضلاً عن المدى الخاص بالعمليات العسكرية وإمكانية أن تشمل كامل الجغرافيا الأوكرانية في الوقت الحالي.
ثانياً، الاستفتاء في المناطق التي سيطرت عليها روسيا في أوكرانيا، ليس أمراً عابراً يمكن مقاربته سياسياً بعدم اعتراف الغرب به، فهناك أمثلة كثيرة على عدم فعالية الاعتراضات بهذا الشأن، وجمهورية شمال قبرص الخاضعة لتركيا خير دليلٍ على ذلك. وعليه فإن لا يمكن قراءة قرار تنظيم الاستفتاء في المقاطعات الأربع (لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون) فقط في الإطار السياسي، بل هو خطوة عسكرية قبل أن تكون سياسية من قبل السلطات الروسية والكرملين على وجه الخصوص، خاصةً في توقيتها، وهو توقيت مواجهة بين الغرب وروسيا.
ثالثاً، فضلاً عن توقيت تنظيم الاستفتاء في المقاطعات الأربع وما يعكسه من أنّ هذه الخطوة عسكرية، تجدر الإشارة إلى عاملين آخرين يعززان هذا الاستنتاج وهما: أنّ الإعلان عن التعبئة الجزئية، جاء في جزءٍ منه لتأمين هذه المناطق، حيث أن نتيجة الاستفتاء لا جدال فيها تقريباً. وثانياً، أن ضمّ مناطق إلى روسيا يعني أنها باتت من ضمن أراضي الدولة الروسية مع ما يعنيه ذلك من استخدام كافة الوسائل المتاحة للدفاع عنها، وهذا يرتبط بشكلٍ أو بآخر بهيبة روسيا، وبهيبة الحكم فيها، خاصةً وأن الغرب ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا عمد إلى شخصنة الأمور وتوجيه اللوم إلى «منظومة بوتين»، وجعل إسقاطها هدفاً لا رجعة عنه.
رابعاً، القرار الروسي بتنظيم استفتاء في بعض مقاطعات أوكرانيا، معطوفاً عليه إعلان التعبئة، هو قرار جيو استرتيجي بالدرجة الأولى، يغيّر الحدود القائمة في روسيا خصوصاً وأوروبا عموماً، وبالتالي من الواضح أنها خطوة عملية من روسيا كردّ نهائي على المحاولات الغربية لتفتيت روسيا وتقليص مساحتها ضمن حدودها، في ما يشبه تكراراً لماساة انهيار الاتحاد السوفياتي التي وصفها بوتين بأنها أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين.
خامساً، إدراك موسكو لعوامل الضعف التي طبعت أداءها في الحرب الأوكرانية، ووجود سوء تقدير في إدراك قوة الهجمة الغربية عليها أولاً، وثانياً سوء تقدير في قدرة الجيش الأوكراني على استيعاب الصدمة التي خلفها القرار الروسي في شباط الماضي عند الإعلان عن بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ما سبق دفع القيادة الروسية إلى العمل أولاً على معالجة النقص العددي في صفوف القوات الروسية، والذي يعتبر من أحد أهمّ عوامل التراجع الروسي في خاركيف، فضلاً عن ضعف أداء الاستخبارات العسكرية الروسية في توقع الهجوم وحجمه في خاركيف، والذي وجّه بكلّ تأكيد ضربةً معنويةً ملموسة للجيش الروسي ومن ورائه القيادة الروسية.
سادساً، في ضوء الحرب الإعلامية المركزة على روسيا،، وفي ضوء إصرار واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي على إدارة حرب استنزاف وتسخير الإمكانات التقنية في خدمة الفرق العسكرية الأوكرانية التي تواجه الجيش الروسي، وفي ضوء تجنيد مرتزقة من أنحاء العالم، لا يمكن لأحد توقع الخطوة التالية في هذه المواجهة، لكن المؤكد أنّ من حمل على عاتقه مهمة هدم الصنم الأميركي يأخذ بالحسبان كلّ السيناريوات، ويعي جيداً أنّ خسارته لهذه الحرب تعني نهايته ونهاية بلده.
سابعاً، القرارات الأخيرة التي اتخذتها القيادة الروسية تنقل روسيا والكرملين بقرارٍ منه إلى اختبار قوّة جديد، والتزامات ومجازفة فرضها هو على نفسه أولاً وأخيراً، حتى لو أنّ البعض يقرأ ما جرى كردّ فعلٍ على قوة الهجمة الغربية على الكرملين، وما جرى في خاركيف بحق الجيش الروسي.
من المؤكد أنّ الغرب استطاع استغلال ما جرى في خاركيف على الوجه الأمثل أقله إعلامياً، والمؤكد أيضاً أنّ إصرار واشنطن على المواجهة ومعها أوروبا مدفوع بحقد دفين على روسيا ودورها وتجرّؤ قيادتها على تحطيم العالم أحادي القطبية تحت سيادة واشنطن، وأوكرانيا التي تقصّد الناتو ضمّها، وتقصّد تحويلها إلى دولةٍ معادية لروسيا، هي من الأهمية بمكان بحيث لا يستطيع الكرملين تجاهل أو تمرير عملية إلحاقها بالناتو بالشكل الذي نتخيّله، وحتى لو تعرّض لإخفاق هنا أو خسارةٍ هناك. فاستعادة هيبة روسيا كدولةٍ عظمى، واستعادتها لدورها الجيو سياسي والجيو استراتيجي على المستوى العالمي كإمبراطورية ودولة أمة يجب أن تمرّ عبر أوكرانيا أولاً وقبل أيّ شيءٍ آخر، وبالتالي نحن اليوم بتنا أكثر فأكثر في مواجهة مرحلةٍ لا يمكن التكهّن بارتداداتها على المشهد العالمي، وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة والتذكير بما قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر نهاية الشهر الخامس من العام الحالي، فقد «حثّ كيسنجر الغرب على التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الروسية في أوكرانيا، محذراً من أنّ ذلك ستكون له عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد». وقال كيسنجر في كلمة ألقاها في منتدى دافوس إنه «سيكون من الخطورة بمكان بالنسبة للغرب الانغماس في مزاج اللحظة ونسيان مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي»، مذكراً بأنّ «روسيا كانت جزءاً أساسياً من أوروبا على مدى 400 عام، كما كانت الضامن لتوازن القوة في أوروبا في الأوقات الحرجة. ولا ينبغي أن تغيب تلك العلاقة طويلة الأمد عن أذهان القادة الأوروبيين، كما لا ينبغي أن يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين».