توليد النظام الدوليّ الجديد بين التعبئة الروسيّة والتهديد الأميركيّ
} د. جمال زهران*
كثيراً ما كتبت من قبل، أنّ أميركا تسعى جاهدة إلى اختلاق الوقائع، لكي تنشب الحرب العالمية الثالثة، وهي الجالسة بين محيطين الهادي والأطلنطي، وبمنأى عن الحرب البرية، كما تتصوّر! فهي قد بدأت تتحرّش مع بداية العام، ومن قبل في عام 2014 بنشوب أزمة القرم، مع روسيا، لتقع في حرب في منطقة أوكرانيا، تستهدف من ورائها استنزاف القوة الروسية وإهدار طاقاتها العسكرية والاقتصادية، ومن ثم تصبح دولة ضعيفة وهزيلة، ويمكن أن تكون صيداً سهلاً لها لفرض إرادتها عليها، ويحول ذلك دون فرض نظام دوليّ جديد عليها، وتظلّ هي الدولة العظمى المهيمنة على العالم كله سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
وعلى الجانب الآخر، تحرّشت أميركا بالصين، على أرض جزيرة «تايوان»، التابعة للجمهورية الصينية، وباعتراف الأمم المتحدة ذاتها! ولكن أميركا تريد أن تتدخل الصين في تايوان ـ كما يحدث لروسيا في أوكرانيا حالياًـ وتتورّط في حرب عسكرية، تستنزف القوة الصينيّة وقدراتها الشاملة، والهدف إضعافها، لكي تستمرّ الهيمنة الأميركيّة على النظام الدولي، دون أن يتغيّر!
إذن نحن أمام مخطط أميركيّ إجراميّ، يقود إلى حرب عالمية ثالثة، تكون نتيجتها تدمير شامل لأهمّ قوتين عالميتين منافستين لأميركا، وهما: روسيا والصين، ولا يعنيها مستقبل أوروبا المؤكد دمارها تماماً في حالة نشوب الحرب العالمية الثالثة.
في الوقت نفسه تتصوّر أميركا، أنها بمنأى عن الدمار الشامل، مثلما حدث في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وأن البعد الجغرافيّ، يوفر الحماية الاستراتيجية للدولة الأميركية، وشعبها، وتناست القدرات النووية لدى روسيا والصين، بل ودول أخرى إقليميّة مثل كوريا الشمالية ـ التي أعلنت دعمها لروسيا وباكستان وإيران. وتبني أميركا استراتيجيتها على أساس استحالة استخدام روسيا والصين للسلاح النووي ضدّ أميركا!
إلا أنّ «روسيا العظمى»، أدركت وعرفت، ما تخطط له أميركا المتغطرسة، والمشبعة بكلّ مظاهر القوة، من «تجبّر وغطرسة وغرور وتسلط وهيمنة»، لذلك، فإنه لم تمضِ عدة أيام على التدخل الروسي في أوكرانيا، حتى أعلن بوتين بشكل واضح ومباشر وحاسم، ودون أيّ تردّد، أنه أعطى التعليمات إلى مسؤولي تشغيل السلاح النووي، بضرورة جاهزيّتهم للإطلاق وتجاه الغرب، إذا لزم الأمر، وأنّ ذلك موازياً لتدخلها في روسيا، حماية لأمنها القومي، تجاه حلف الناتو، الذي يمارس جبروت القوة، ويصرّ على التوسّع شرقاً تجاه روسيا، وذلك بدعم أميركي مباشر!
ولا تزال أميركا، غير مصدّقة لإمكانية الاستخدام الروسي، للسلاح النووي، ضدّها، في الوقت ذاته تؤكد روسيا، على جاهزية السلاح النووي للإطلاق، وقت اللزوم. كما أنّ روسيا تصرّ على أنّ النصر هو النتيجة الحتميّة لتدخلها في أوكرانيا، التي تصبح بكاملها تحت السيطرة الروسية وبإرادة شعبها حتى ولو تحت سلاح القوة. ومن ثم فإنّ إصرار روسيا على ضمّ ولايتين جديدتين وإجراء الاستفتاء فيهما خلال الأسابيع القليلة المقبلة وهما: خاركيف (خيرسون)، وزابوريجيا (موقع المحطة النووية التي سيطرت عليها روسيا)، بالإضافة إلى ولايتين سابقتين هما (دونيستك، ولوغانسك) المعروفتين بجمهوريات دونابس المستقلة، يعكس أنّ روسيا ماضية في استراتيجيتها للسيطرة على كلّ أوكرانيا، وضمّها إلى روسيا، لتصير المواجهة بعد ذلك مع أوروبا والناتو، إذا ما لم يرتدعا، ويتراجعا عن التدخل في الشأن الروسي وعن العقوبات. وقد يصل الأمر إلى الانفصال عن أميركا، وحلّ الناتو، وتصبح أوروبا كلها مجالاً حيوياً للأمن الروسي، وتحت السيطرة الروسية. وبذلك تكون الولاية الأميركية على أوروبا قد انتهت لتحلّ الولاية الروسية، إلى أمد بعيد، وتكون أوروبا قد فشلت في تحقيق الاستقلال الذاتي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وحتى التدخل الروسي في أوكرانيا، بعد التحرش الأميركي الأوروبي بروسيا، في شباط/ فبراير 2022.
ويتضح إذن، أنّ التعبئة الروسية لـ 1% من الاحتياطي البالغ (300) ألف، من إجمالي 22 مليون احتياطي، تؤكد أنّ روسيا ماضية في توليد نظام دوليّ جديد بعيداً عن الهيمنة الأميركيّة، وأنّ التهديد الأميركي، تهديد أجوف، وما ورد على لسان «بايدن»، بعد خطاب «بوتين»، وقراره التعبويّ، يعكس مدى المخاوف الأميركية، وتحذيراته لبوتين، هي طلقات فارغة في الهواء.
إنّ نظاماً دولياً جديداً قد تولد فعلياً، وبدت ملامحه في اجتماع منظمة شنغهاي، التي تضمّ (5) دول نووية هي (روسيا/ الصين/ الهند/ باكستان/ إيران)، فضلاً عن وجود كوريا الشمالية، التي أكدت تضامنها مع روسيا في أوكرانيا، ولا بديل عن النصر النهائي، وذلك حديث آخر.
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة.