في ذكرى الانتفاضة: وحدة الأمة في مقاومة الاحتلال والعدوان والتطبيع (1)
} زياد حافظ*
مقدّمة
28 أيلول يوم مؤلم في تاريخ الأمة كما هو نقطة تحوّل مشرقة في مسار الصراع العربي الصهيوني. في 28 أيلول نستذكر الانفصال لأول تجربة وحدوية في تاريخ العرب المعاصر كما نستذكر رحيل زعيم الأمة القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر. لكن من جهة ثانية هو تاريخ انتفاضة المسجد الأقصى في فلسطين المحتلّة. فالأمة اليوم غير الأمة آنذاك، والإمكانيات في مواجهة العدو المحتلّ اليوم غير تلك الإمكانيات البدائية آنذاك. وانتفاضة الحجارة أصبحت اليوم انتفاضة الصواريخ العربية الدقيقة ما يدلّ على مدى الإبداع والتطوّر في عقل معسكر المقاوم للمحتلّ.
ولمّا نحيي هذه الذكرى لا بدّ من أن نتوقف على التحوّلات التي حصلت والتي تفسّر النجاحات التي حقّقها الشعب الفلسطيني ومعه حركة التحرّر العربية. لا نريد الاسترسال في ربط مسارات المعارك العربية مع المحتلّ سواء كان صهيونياً أو أميركياً إلا الإشارة إلى خط بيانيّ واضح يجعل من كلّ مواجهة إضافة نوعيّة تتراكم مع الإنجازات السابقة. فتحرير لبنان في أيار 2000 تلته انتفاضة الأقصى في أيلول من السنة نفسها، ثم تلاها احتلال العراق وإطلاق المقاومة العراقية التي أفشلت المشروع الأميركي، ثم طرد المحتلّ الصهيوني من غزّة في 2005. فحاولت الولايات المتحدة التعويض عبر دفع الكيان الصهيونيّ في عدوانه على لبنان في 2006 أفضت إلى إنهاء أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”. من بعد ذلك حاول العدو تكراراً الاعتداء على فترة امتدّت من 2008 حتى اليوم كرّست عجز الكيان في دخول القطاع لعدم قدرته على دفع ضريبة الدم. ثم جاء العدوان الكونيّ على سورية لكسر ظهر المقاومة ففشل في تدمير الدولة السورية وجيشها والآن سورية انتصرت في معركتها الاستراتيجيّة ضّد التحالف الكونيّ ما يعزّز محور المقاومة. وكذلك الأمر بالنسبة للتحالف العدوانيّ على اليمن الذي كشف عورات القوى المتحالفة مع الولايات المتحدة وعجز الأخيرة عن تغيير موازين القوّة العسكرية وحتى الدفاع عن المنشآت النفطية في الجزيرة العربية والخليج العربي.
حقائق معركة سيف القدس
معركة سيف القدس في 2021 أظهرت عدّة حقائق يجب التوقف عندها. الحقيقة الأولى هي تحقيق وحدة الساحات الفلسطينية في مواجهة العدو المحتلّ. فالأخير كان يبني استراتيجيته على تجزئة ساحات المواجهة كغزّة والضفّة ولم يكن يحتسب أنّ فلسطينيي 48 قد يكونون طرفاً أساسياً في المواجهة. جاءت معركة سيف القدس لتفرض واقعاً جديداً غيّر قوانين الاشتباك وسحب المبادرة من يد العدو. فلم يعد ممكناً الاستفراد بالمسجد الأقصى أو أحياء القدس العربية دون أن تشارك مختلف المناطق الفلسطينية.
الحقيقة الثانية هي أنّ وحدة الساحات للنضال الفلسطيني كانت لها ترجمات متباينة في طبيعة العمل النضالي. فالمواجهة العسكرية فرضت غرفة عمليات قتالية موحدة لكن لم تظهر مفاعيلها على الصعيد السياسي لا في الداخل الفلسطيني ولا في الخارج. فما زال المشهد الفلسطيني يشهد تشتّتاً في القوى والفصائل وكأنّ الأهداف مختلفة بينما واقع الحال هو مواجهة العدو المحتلّ لتحرير كامل التراب أولاً وأخيراً وليس للصراع على سلطة وهمية افتراضية في ظلّ الاحتلال والحصار المفروض على الشعب الفلسطيني. هذه الحقيقة المرّة التي يجب الاعتراف بها قبل التكلّم عن استراتيجيات تؤدّي إلى وحدة الجهود في مواجهة الاحتلال والعدوان والتطبيع. فهناك حدود لتلك الجهود في ظلّ تشتّت القوى التي هدفها واحد وهنا تكمن المفارقة.
الحقيقة الثالثة هي أنه تجب معالجة أسباب التشتّت خاصة بين الفصائل والقوى التي اعتمدت خيار المقاومة بكافة أشكالها كخيار استراتيجي. اما القوى الأخرى التي لا تؤمن بخيار المقاومة فلا داعي لاستنزاف القوى والجهود لجلبها إلى اعتماد خيار المقاومة. ما يحيّد ضرر تلك القوى المناهضة للمقاومة هي الإنجازات التي تحقّقها المقاومة في المواجهة الميدانيّة مع العدو المحتل. أما القوى التي تؤمن بخيار المقاومة فعليها أن تتجاوز ذاتيتها وتعمل بمفهوم العمل الجماعي.
الحقيقة الرابعة هي استعمال التغيير في موازين القوّة على الصعيد الدولي والإقليمي وترجمتها إلى قيمة مضافة في المواجهة مع الكيان الصهيوني. مما لا شك فيه، وإنْ كانت بعض النخب العربية والفلسطينية ما زالت تراهن على ما يُسمّى بالمجتمع الدوليّ وخاصة الولايات المتحدة، فإنّ قدرة ذلك “المجتمع” وخاصة الولايات المتحدة على التأثير في المعادلات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية في العالم، وفي الإقليم، أصبحت محدودة للغاية فيمكن التصدّي لها بكلفة مخفّضة لم تكن بالحسبان. أما على صعيد الكيان الصهيوني فهو يعيش أزمة داخلية خانقة وإنْ كان الإجماع في الكيان هو التسابق في التطرّف ضدّ الشعب الفلسطيني. لكن التطوّرات الأخيرة، ومعركة سيف القدس إحدى مظاهرها، أظهرت أنّ المبادرة لم تعُد بيد الكيان رغم التصريحات العالية النبرة والتي لا تلاقي ترجمة على الأرض. البعض يعتبر أنّ استمرار الغارات الصهيونية على مواقع متعدّدة في سورية دليل على أنّ زمام المبادرة ما زال بيد الكيان. لكن جميع هذه التحرّكات الصهيونية تحرّكات تكتيكية لا تغيّر لا في ميزان القوّة ولا في الوقائع الميدانيّة بل العكس تزيد من الحيرة والارتباك خشية من ردّ ليس في الحسبان. وبالفعل، يقف الكيان على رجل ونصف!
ما زال الكيان يتمتع بتأييد النخب الحاكمة في الولايات المتحدة أيّ في قيادتي الحزبين الديمقراطي والجمهوري بغضّ النظر عن الخلافات بينهما. لكن الإجماع هو على الدفاع على أمن الكيان وليس على الموافقة على كلّ أعمال حكومات الكيان بغضّ النظر إنْ كانت ليكودية أو أكثر تطرّفاً. لكن هناك تحوّلات في الرأي العام الأميركي على الصعيد الشعبي وعلى الصعيد الجامعي وعلى صعيد نسبة متزايدة من المثقّفين، وفي قسم وازن للكنائس الأميركية، وفي أوساط عديدة من القوّات المسلّحة ودوائر الاستخبارات، يعتبر بنسب متفاوتة أنّ الكيان عبء سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي على الولايات المتحدة وأنّ ميزان الربح والخسارة ليس في صالح دعم الكيان. لكن هذا التحوّل لم يصل إلى مرحلة حسّاسة ضاغطة على النخب الحاكمة لتغيير موقفها المؤيّد والمطلق للكيان. فهناك أصوات داخل الكونغرس الأميركيّ تطالب بمساءلة ومحاسبة الكيان. هناك حملات مقاطعة واسعة في عدد من الكنائس الأميركية التي توقّفت عن استثمار أموالها في فلسطين المحتلّة بسبب سياسات الكيان. هناك شركات أميركية وازنة لم تعد تكترث للتهديد والترهيب الصهيوني. هناك مقالات متزايدة تنتقد الكيان بينما كان ذلك محرّماً حتى ماض قريب. حتى الإعلام الشركاتي الذي تسيطر عليه شركات لا يتجاوز عددها الستّ لم يعد باستطاعتها إغفال أعمال حكومة الكيان. ولكن كما ذكرنا أعلاه ما زالت هذه التحوّلات دون الوصول إلى الكتلة الحاسمة التي تغير السياسات ولكن المسألة لم تعد “إذا” بل “متى”!
من جهة أخرى هناك تنامٍ في الحذر والريبة من الكيان الصهيوني في كلّ من روسيا والصين. وهذه الكتلة الأوراسية الوازنة التي تعمل على تغيير النظام العالمي لنظام أكثر إنصافاً للدول بينما النظام القائم يعمل على قاعدة اللعبة الصفرية، فإنّ تلك الدولتين بدأتا تعتبران الكيان عبئاً. فروسيا غير مرتاحة لدور الكيان في أوكرانيا وتجلّى عدم الارتياح ذاك بطرد الوكالة اليهودية من روسيا. كما أنّ الصين ترى دور الكيان المعرقل لمبادرتها في طريق الحرير الجديدة التي تفرض تنسيقاً مع دول ليست “صديقة” للكيان كباكستان وإيران. ما زالت الصين تستثمر في فلسطين المحتلة كإدارة مرفأ حيفا وما زال التبادل التجاري يتجاوز 22 مليار دولار وهو أكثر بـ 4 مليارات دولار من حجم التبادل الصيني المصري. لكن استجابة الكيان للضغوط الأميركية في استبعاد الشركات الصينية من الدخول في مناقصات سكك الحديد، وهي ضربة مباشرة لمبادرة الطريق الواحد الحزام الواحد، جعلت الصين تعيد النظر في جدوى العلاقات مع الكيان. لم تصل الأمور إلى القطيعة لكن من الواضح أنّ الصين وروسيا غير مرتاحتين لسياسات الكيان وهذا يضعف بشكل كبير الموقف الاستراتيجي للكيان الصهيوني.
كما أنّ دولاً في محور المقاومة أصبحت شريكة في التكتّلات الآسيوية التي تناهض الهيمنة الأميركية. فالجمهورية الإسلامية في إيران أصبحت عضواً في منظمة شنغهاي للتعاون كما أنها ستصبح عضواً في مجموعة “بريكس” ابتداء من 2023. وكذلك الأمر بالنسبة لسورية التي هي عضو مراقب في منظمة شنغهاي والبريكس. ونشهد أيضاً دخول مصر وبلاد الحرمين والجزائر تلك التكتّلات الخارجة عن هيمنة الولايات المتحدة. ونمو الحوار بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية في إيران لن يريح الكيان. أما في تركيا فهناك لغة جديدة ناتجة عن قمة طهران التي ضمّت الرئيس الروسي والتركي مع القيادات في الجمهورية الإسلامية في إيران ما يمهّد لتسوية الأوضاع بين سورية وتركيا.
تبقى النقطة “الإيجابية” الوحيدة لصالح الكيان هي التطبيع من بعض الدول العربية معه. لكن تقييم التطبيع الذي حصل منذ اتفاقيات كامب دافيد ووادي عربة لم يستطع خرق المقاطعة الشعبية له. أما المتطبعون الجدد فلم يحصدوا “إيجابيات التطبيع” خاصة في جو شعبي عربي في تلك الدول معارض للتطبيع. حتى بلاد الحرمين التي أظهرت “إيجابية” ملتبسة مع الكيان لم تخطُ حتى الساعة خطوة التطبيع رغم الضغط الأميركي الكبير عليها. فحكومة الرياض قد دخلت على ما يبدو مرحلة مراجعة سياساتها في المنطقة ما يجعل التطبيع مع الكيان أمراً معرقلاً لجهودها.
بناء على تلك التحوّلات في موازين القوّة التي لم تعُد لصالح الكيان فلا بدّ من استثمارها وتحويلها لقيمة مضافة من القوّة وفي تحقيق الإنجازات المتراكمة لدحر الاحتلال وردع العدوان ومناهضة التطبيع.
*الأمين العام السابق للمؤتمر القوميّ العربيّ