أخيرة

نافذة ضوء

الحضارة والهمجيّة لا تتصالحان

} يوسف المسمار*

 

الحضارة والهمجية حالتان متناقضتان لا تتصالحان. فإما حضارة وإما همجية. ومن يظن أن حالتي الهمجية والحضارة يمكن أن تتصالحا فإنه بلا شك يعيش في عالم الخرافة وهذيان أضغاث الأحلام.

قد يخرج المرء إذا استعاد وعيه من عالم الخرافة فتكون استعادة الوعي حالة صحيّة، أما إذا فقد وعيه وسقط مغمًى عليه في حالة الخرافة وهام في أجواء السحر والانبهار، فإنه لن يكون إلا مريضاً ولو أجمع أطباء العالم على اعتباره معافى.

 الفرق بين حالة الصحة وحالة المرض هو الفرق بين الضعيف الخائر والقويّ النشيط. والضعف والقوة ليسا قدراً يولدان بولادة المرء بل هما حالتان يكتسبهما بعد الولادة فيكون اكتساب القوة بنموّ الوعي واشتداد الهمة. ويحصل الضعف والخمول والتخاذل. فمن كبُر وعيه واتسع أفق نظره، تعمّقت معرفته فأدرك أن وجوده بالاجتماع بدأ، وبالاجتماع تكون سلامته، وبالاجتماع يتألق، وبالاجتماع يستمرّ فتظهر فيه شخصيته الاجتماعية في بيئة وجوده المجتمعيّ أرضاً وجماعة، ويبدأ نشوء تاريخ حضارته بنظرة أوسع الى الوجود والحياة والكون والخلق ترتّب عليه مسؤوليّة النهوض بنفسه وبمجتمعه وبعالم إنسانيته فترتفع الإنسانية بمجتمعاتها الحضارية الى قمةٍ من قمم المعرفة المتقدمة تكون نقطة انطلاق الى قممٍ في الوعي أعلى والى ذرى في المعرفة أعمق وأوسع وأعلى تتواصل ولا تنتهي لأن الوعي والمعرفة لا يحدان بنهاية.

أما من ضحُل وعيه، وضاق بُعد نظره، وضحلت طاقة معرفته، فإنه يتقوقع على نفسه وينعزل عن مجتمعه متوهّماً أن وجوده هو أصل الوجود بدايةً وحياةً واستمراراً، فينغلق على ذاته ولا يرى الا نفسه تستحق كل ما يُرى وما لا يُرى، وأن هذا الكون لم يـوجد الا لإشباع شهوات نزعته الفردية ورغبات أنانيّته المغلقة فلا يشعر بمسؤوليّة، ولا يقوم بواجب، ولا يلتزم بنظام حياة إلا إذا وافق هواه، ولا يحترم حقوق أحد إلا طمعاً بمغنم أو خوفاً من عقاب، فيتغطرس ويتجبّر ويهيم في أجواء من الظنون، والخرافات، وأضغاث الأحلام، وفضاءات المنى، ولا يستيقظ من سكرات خرفه وتخريفه المطبق على قوى إدراكه إلا عندما يصطدم بالموت، أو يداهمه الموت فيتنبّه ويتأسّف ويندم على ما فات من عمره، ويتمنّى لو يعود الى الحياة ولو للحظة ليعترف ان كل حياته الماضية التي كان فيها سجين أنانيته ونزعته الفردية كانت سراباً في سراب، وخمولاً في خمول، وضلالاً لا يقود الا الى الهمجية والفناء.

فموجد الإنسان في الكون وواهب الحياة والعقل ليس إلا من أجل تحقيق الوعي والمعرفة والصلاح، والعمل من أجل الأحق والأخيَر والأجمل، وممارسة الأحب والأرحم والأسعد لكل وجود وكل موجود.

الأنانية لا تخلق حضارة، والنزعة الفردية لا تحافظ ولا تحمي مدنية، والأنانيون ذوو النزعة الفردية لا ينتجون حضارة ومدنية. وكل ما تستطيعه الفردية الأنانية تدمير مرضاها وتدمير كل من يتخذها عقيدة دنيوية أو أخروية.

 إن عقيدة أبناء الحياة المثلى هي أن يسيروا على هدى العقل هبة خالق الوجود الذي لا يرضى الا بالحق والعدل، وإقامة سلطة الحق والعدل، وممارسة وترسيخ ثقافة القيم الإنسانية السامية التي هي نهج الحضارة التي يمكن لها أن تنتصر وتبقى.

الأنانية طلاح والاجتماعية صلاح. والطلاح والصلاح نهجان متناقضان. الطلاح همجية تقود عبيدها الى الدمار، والصلاح حضارة يحقق أبناؤها العمار. فمن تمكّنت النزعة الأنانية الفردية في نفسه استعبدته، ومن انتصرت فيه طبيعة الوجدان الاجتماعي الإنساني حرّرته. وهيهات أن تتصالح الحرية مع العبودية. وتتآخى الحضارة مع الهمجيّة أو ترتقي الإنسانية بالنزعة الفردية وبثقافة الأنانية.

*باحث وشاعر قوميّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى