في ذكرى الانتفاضة: وحدة الأمة في مقاومة الاحتلال والعدوان والتطبيع (2)
} زياد حافظ*
دوائر الصراع
سنعرض في هذا الجزء بعض الأفكار لمواجهة الكيان في الدوائر الثلاث لمناقشتها في الملتقى الذي سيُعقد في 29 أيلول/ سبتمبر 2022 بدعوة من المؤتمر العربي العام ومشاركة العديد من الفصائل والقوى المقاومة والجمعيات والمنتديات والذي سيضمّ مئات من الشخصيات العربية. والنتيجة المرتقبة لذلك الملتقى هي إصدار رؤية مستقبلية لمسار الصراع مع الكيان والدور الذي ستقوم بها القوى الشعبية في مساندة الجهود القائمة في مواجهة الاحتلال والعدوان والتطبيع.
أولاً – دائرة الاحتلال
من الواضح انّ خيار المقاومة، وليس التفاوض، هو الخيار الاستراتيجي الأمثل لمواجهة الاحتلال. وهدف المواجهة هو دحر الاحتلال وتحرير كامل التراب الفلسطيني. ليست مهمة الفلسطينيين ولا النخب العربية ولا الجماهير العربية حلّ مشكلة اليهود التي هي مشكلة الغرب وعقدة الذنب التي يحملها بسبب تقاعسه في منع الاضطهاد والمحرقة. إن الغرب هو الذي جعل الكيان رأس حربة للعمل الاستعماري الاستيطاني على حساب الشعب الفلسطيني وزرع الكيان الحاجز الذي يمنع الوحدة العربية ويضرب كلّ محاولة لنهوض الأمة. وهذا الغرب يترنّح بسبب سياساته المتهوّرة وسوء التقدير لموازين القوّة ما يجعله غير قادر أن يكون فاعلاً وضاغطاً في المشهد الدولي والإقليمي وحتى على حماية الكيان. فحماية الكيان “أوكرانيا” كشفت حدود إمكانية القوّة الغربية عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً. كما ليست مسؤولية الشعب الفلسطيني والجماهير العربية ونخبها أن تظهر “إيجابية” و”أخلاقية” وحتى “واقعية” بالشروع لحلّ تعايش غير ممكن مع الكيان. لذلك الواجب الأول والأهمّ هو صبّ كافة الجهود للتحرير وليس لأهداف أخرى كإنشاء “سلطة وطنية” فلسطينية تناضل لكسب “حقوق” من جهات لا تملك القدرة على إعطاء الحقوق ولا راغبة في الأساس على إعطائها.
فكيف تكون المواجهة؟ المواجهة العسكرية مسؤولية فصائل وقوى فلسطينية لا نرى مبرراً لتكاثرها ولعدم انخراطها في إطار عسكري واحد. فجبهة التحرير الوطني في الجزائر كانت الوحيدة في مواجهة المحتلّ الفرنسيّ وليست “فصائل وقوى” وكذلك الأمر بالنسبة لجبهة تحرير فيتنام من المحتلّ الفرنسيّ وفي ما بعد الأميركي. وكذلك الأمر بالنسبة لتحرير لبنان التي تعدّدت في البداية الجهات المقاومة ولكن حُسم الأمر فكانت المقاومة الإسلامية التي قامت بمهمة التحرير.
لكن بما أنّ واقع الحال هو وجود تلك الفصائل التي يعود وجودها إلى حقبة كان العمل الفلسطيني المقاوم امتداداً للدول العربية المنخرطة في مواجهة الاحتلال ولم تعُد موجودة فلا بدّ من التركيز على تطوير غرفة عمليّات عسكريّة موحّدة. المعلومات تفيد بأنّ تلك الغرفة موجودة عندما ينطلق الصدام لكن المطلوب أن تكون مستمرة. ليست مهمتنا تحديد مهام تلك الغرفة ولا توقيت العمليات، ولكن المطلوب هو إعطاء الثقة للجماهير الفلسطينية والعربية بأنّ هناك قيادة فعّالة تواجه الكيان لدحره وتحرير كافة التراب. فتعدّد الأهداف والاجتهادات يخلق مناخ الانحراف والابتعاد عن الهدف الأساس. وهذا ما حصل للأسف.
ولا بدّ لنا من التوقف عند ظاهرة أعمال المقاومة التي يقوم بها أفراد من الشعب الفلسطيني. فعلى ما يبدو هناك نمطان من المواجهة العسكرية ضدّ الاحتلال. النمط الأول هو المواجهة الميدانية سواء بمبادرة الكيان لقصف قطاع غزّة أو بمبادرة الفصائل والقوى الفلسطينية كمعركة “سيف القدس”. والنمط الثاني هو الأعمال الفردية التي يقوم بها فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد ضدّ الكيان سواء بدهس من السيارات أو طعن بالسكاكين أو مواجهة بالسلاح. وهذه الظاهرة يجب درسها لأنها متكرّرة ويصعب على العدو ردعها. فحاجز الخوف تمّ تجاوزه بينما العدو لا يستطيع تحمّل ضريبة الدم للاحتلال. وهذه الأعمال لا تعود بالضرورة إلى قرار مركزي صادر عن فصيل أو حزب أو أيّ تنظيم وإنْ كان المنفّذ لتلك العملية مرتبط بأيّ من تلك القوى. هذا يعني أنّ مستوى وعي الشعب الفلسطيني وصل إلى درجة أنه يقّيم الوضع ويأخذ على عاتقه القرار بالمقاومة عندما يرى الفصيل المقاوم ممتنعاً لأسباب قد تكون مبرّرة عن القيام بعمل مماثل. السؤال هنا هل من الممكن تنمية تلك الأعمال؟ وإذا نعم، كيف؟
العدو يردّ بقمع عائلة المنفذ وهنا يمكن إراحة المقاوم إذا ما شعر أنّ هناك جهات فلسطينية أو عربية ستتحمّل مسؤولية رعاية الأهل. حتى الساعة، هذه الجهة غير موجودة. كذلك الأمر بالنسبة لدعم صمود أهلنا في المناطق التي يحاول العدو المحتل اقتلاع سكّانها. هذه جهود عربيّة مطلوبة ولكن غير متوفرة. هل يمكن كسر ذلك الطوق؟ هل يمكن إنشاء “صندوق الشهيد” لدعم عائلته بعد استشهاده أو اعتقاله؟
صمود الشعب الفلسطيني اقتصادياً مسألة تتجاوز قدرة الفصائل المقاومة. هل تستطيع النخب الشعبية العربية المؤيّدة للقضية أن تتحمّل تلك المسؤولية؟ حتى الساعة لم تظهر أيّ مبادرة من هذا النوع. لكن كلّ ذلك لم يمنع “أفراداً” من الشعب الفلسطيني من القيام بما يعتقدون هو الواجب ليربك العدو وينزع عنه رفاهية راحة البال والاطمئنان. هذا يعني أنّ اليأس الفلسطيني تحوّل إلى فرصة لا يستطيع العدو منع إنجازها وإنْ كانت كلفتها كبيرة. لكن في المقابل أصبحت معادلة الخسارة الصهيونيّة توازناً بشرياً وخسارة المقاوم الفلسطينيّ؛ وهذا تطوّر نوعي لا يستطيع العدو منعه ولا تحمّله.
المواجهات الأخيرة لها دلالات لا بدّ من التوقّف عندها. فاقتحام الأقصى من قبل المستوطنين المستعمرين لم يجلب الردّ الذي كان متوقعاً بعد معركة سيف القدس. كما أنّ تجرّؤ العدو على استفراد حركة الجهاد وقيادتها دون أن تشتعل الساحة بأكملها أعطت الانطباع بأنّ الكيان يستطيع تجزئة العمل والاستفراد. هذه هي الدلالة الأولى. أما الدلالة الثانية فيه ضرورة تعميق مفهوم وحدة الجهود لمنع الاستفراد ولإعادة الثقة بعد الصدمة التي تلت الواقعتين اللتين كانتا على نقيض إنجازات معركة سيف القدس بنزع المبادرة من الكيان وتوحيد الساحات الجغرافية المقاومة في فلسطين. الدلالة الثالثة هي رغم الاستفراد بحركة الجهاد فإن الكيان هو الذي طلب الوساطات العربيّة لاستيلاد هدنة ولو موقتة. وشروط وقف النار أظهرت قدرة فلسطينية على فرض الشروط ووضع مصر في مواجهة الكيان عندما تكفلّت مصر بتأمين إطلاق سراح المعتقلين. فلا يستطيع الكيان أن يغضب مصر في هذه الظروف خاصة في ظل التحوّلات الدولية والإقليمية التي ليست لصالح العدو. الدلالة الرابعة هي قصر مدّة المواجهة حيث تبيّن أنّ قدرة العدو على المواجهة في داخل فلسطين محدودة ويجب درس تداعياتها.
أما على الصعيد السياسي والشعبي فهناك عدّة خطوات يمكن اتخاذها في كافة الساحات الفلسطينية. فنهاك إمكانية القيام بعصيان مدني متدرّج أو شامل يجب بحثه في الجدوى والتوقيت والتخطيط له. والسؤال هو هل يستطيع العدو تحمّل انتفاضة شاملة في كافة الأراضي المحتلّة؟ والسؤال الثاني من هي القوى التي ستقود تلك الانتفاضة؟ أليست هناك ضرورة لقيام جبهة عريضة تضمّ جميع المقاومين وأنصارها؟ ومن هي القوى التي ستقف ذلك وكيف يجب التعامل معها؟
هنا لا بدّ من استذكار ملتقيات حصلت في الماضي القريب حول دعم صمود الشعب الفلسطيني خاصة على الصعيد الاقتصادي. هذه مسؤولية فلسطينيي الشتات أولا ومسؤولية القوى الشعبية العربية ونخبها ثانياً. من ضمن الاقتراحات انشاء صندوق لدعم ذلك الصمود لكن كيف، وبماذا وبمن؟
بعض الأفكار التي يمكن مناقشتها هو درس إمكانية مقاطعة البضائع الصهيونية في الأسواق الفلسطينية. لا ننسى أن حجم السوق الفلسطيني في فلسطين يوازي في عدد السكان الصهاينة. أيّ انخفاض في مستوى استهلاك البضائع الصهيونية قد يكون له تأثير. لكن أيّ بضاعة وكيف تتم المقاطعة؟ وتباعاً لذلك يمكن درس مقاطعة بضائع الدول المساندة للكيان والتي قد لا تؤّثر باقتصاداتها ولكن دلالاتها السياسية واضحة. فلما أقدمت شركة “بن اند جري” على التوقف عن بيع منتجاتها في أسواق الكيان أثيرت عاصفة في الولايات المتحدة “تستنكر” ذلك لكن دون تغيير في قرار الشركة. الجدير بالذكر أن “بن اند جري” من أشهر منتجي البوظة وأصحابها المؤسسين من اليهود قبل أن يبيعوا أكثرية الشركة لشركة بريطانية “يونيلفر”. حاولت الشركة البريطانية نقض قرار الشركة التابعة لها ولكن لم تفلح والقضية أمام المحاكم. العبرة هنا تكمن في مقاطعة يهودية للبيع للكيان.
في هذا السياق يمكن الاستفادة من تجربة منظمة “بي دي أس” التي أصبحت شوكة مؤلمة في خصر الكيان ومؤيّديه في الخارج وخاصة في الولايات المتحدة. اللوبي الصهيوني يحاول استصدار تشريعات تجرّم المنظمة كمنظّمة معادية للسامية وإن اصطدمت مع حق حرّية التعبير التي يحميها الدستور الأميركي. فمعظم تلك المحاولات في طريقها إلى المحكمة الدستورية العليا للبت في موضوع تجريم انتقاد الكيان بحجة معاداة للسامية.
يمكن مقاطعة أيضاً بضاعة الدول العربية المطبّعة وخاصة الشركات العربية التي تتعامل مع الكيان وبالتالي تهميش فوائد العلاقة مع الكيان. هذا يكون جزءاً من مقاومة التطبيع التي سنقاربها في الجزء الثالث.
لا يجب أن يغيب عن البال المقاومة الثقافية عبر إحياء كافة أشكال التراث الفلسطيني ومقاطعة الفنانين والأدباء الذين يساندون الكيان. فالمقاومة الثقافية هي الردّ على محاولة طمس التراث والأثر الفلسطيني من أسماء قرى إلى شوارع إلى أعلام الفكر والفن والأدب والعلوم. المقاومة الثقافيّة في الخارج تلاقي نجاحات كبيرة في المحافل الجامعيّة كما بدأت تستقطب فنّانين كباراً في السينما والمسرح والغناء إلخ يقاطعون مهرجانات الكيان. كما أنّ الرياضيين العرب والمسلمين الذي يعلنون مقاطعتهم لمباريات وجولات تضمّ الكيان أيضاً علامة فارقة تتنامى ويجب تشجيعها.
ثانياً – دائرة العدوان
العدوان على الشعب الفلسطيني له أشكال مختلفة. الكيان الصهيونيّ يرتكب يومياً جرائم ضدّ الشعب الفلسطينيّ سواء عبر القتل أو الاعتقال التعسّفي أو عبر التطهير العرقي لمناطق في القدس والخليل والنجف. والردّ عليها هو جعل العدوان أكثر كلفة. إحصائيّات الهجرة من الكيان تفوق الأرقام للهجرة الوافدة وهذا ما سيؤّدي إلى زوال الكيان.
استفراد شرائح من المجتمع الفلسطينيّ هي استراتيجية يعتمدها العدو. يجب إسقاط تلك الاستراتيجية حيث الردّ يجب أن يكون فورياً وليشمل شرائح واسعة لا يستطيع الكيان مقاربتها بشكل مستمرّ. هنا تأتي تجربة معركة جبل نعلان في بلدة تقع شمال رام الله. حاول العدو والمستوطنين الاستيلاء على ذلك الموقع ولكن جوبهوا بكلّ البلدة تهبّ للدفاع عنه. العبرة هنا أنّ الكيان لا يستطيع أن يقوم بعملية عسكرية واسعة إلاّ عبر سحق بلدة بأكملها وما لها من تداعيات على صعيد الإعلام الدولي الذي شكّل ركيزة أساسية للسردية الصهيونية. فمجازر العدو في غزّة ساهمت في قلب مزاج الجيل اليهودي الأميركي الشاب الذي كان يؤيّد الكيان بدون قيد ولا شرط إلى انتقاده والنشاط في أعمال مؤيّدة للقضية الفلسطينية. السؤال هنا هل يمكن تحفيز البلدات الفلسطينية على التنسيق في مواجهة الاستفراد؟
الكيان الصهيوني يشنّ العدوان تلو العدوان إضافة لاحتلال أراضٍ عربية. فالدول العربية المحتلة أراضيها كلبنان وسورية تشهد عدواناً مستمرّاً عليها عبر انتهاك حرمة أجوائها أو قصفها. هذه مسؤولية الحكومات المعنية في اتخاذ الإجراءات اللازمة آخذين بعين الاعتبار الانقسام العمودي والأفقي في الدولة اللبنانية حول الردّ واحتلال الولايات المتحدة وتركيا لمناطق سورية. فالدولة اللبنانية تستند إلى المقاومة لردع أيّ توغّل صهيوني في الأراضي اللبنانية رغم الضغوط الأميركية والغربية عليها لنزع سلاح المقاومة. أما في سورية فالأولوية تكمن في انهاء الاحتلال الأميركي والتركي فتتحمّل الدولة عبء الغارات الصهيونية التي لم تؤدّ إلى أيّ تغيير في المعادلات الميدانية. فالكيان الصهيوني يحاول استدراج أي من الأطراف الثلاثة ويمكن إضافة إيران. فالأخيرة وسورية والمقاومة في لبنن تشكّل محوراً إقليمياً لا تستطيع الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني دحره رغم المحاولات من احتلال وقصف والاستيلاء على مخزون النفط والزراعة والماء. فهذا المحور له قيادات تدري كيف ومتى تردّ. فالمسألة ليست مسألة “إذا” بل مسألة “متى”. فلا داعي للتطفّل عليها عبر “أفكار” و”نصائح”. يمكن إبداء الرأي في الأداء في المواجهة ولكن الإنجازات التي حققتها هذه القيادات تكفي بالنسبة لنا لقبول ما يصدر عنها حول توقيت الردّ وكيفيته.
ثالثاً – دائرة التطبيع
مقاومة التطبيع مسؤوليّة الجماهير العربية في الدول المطبّعة. في هذا السياق نشير إلى الجهود التي قام بها المؤتمر العربي العام والمستمرة فلا نرى ما يمكن إضافته عما أنجزته المبادرات المختلفة لمقاومة التطبيع. فهو عمل مستمرّ حتى إلغاء العلاقات المطبّعة. أما تطويرها لجعلها قوى ضاغطة على الحكومات فيه تخضع لتقدير الظروف في كلّ قطر.
ملاحظات ختاميّة
وحدة الجهود في مختلف الساحات الفلسطينية والعربية لمقاومة الاحتلال والعدوان والتطبيع عمل صعب وطويل ويتطلّب تفرّغاً لتنظيم الجهود ومتابعتها وتمكينها. المهام كثيرة والقدرات محدودة فكيف نوازن بينها؟ ما هي الأولويات التي لا يمكن تأجيلها وكيف يمكن تدريجها؟ ومن المهمات الصعبة في تحديد مسار “وحدة الجهود” هو التقدير الدقيق لتوقيت التدخل الأوسع في مواجهة العدو. أيّ بمعنى آخر هل كلّ عملية يشنّها العدو تستوجب ردّاً؟ وإذا كان الجواب نعم فهل يعني أنّ الجميع معنيون بالردّ وفي الوقت نفسه؟ وما هي المرجعيّة التي تحدّد ذلك في غياب مرجعية سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية موحدة أو متفاهمة بشكل عميق بين جميع مكوّناتها؟
*الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.