الترسيم البحري بعيداً عن المزايدات والمناقصات
ناصر قنديل
– لا تستقيم مناقشة العرض الخطي الذي تسلّمه لبنان من الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، إلا بالمقارنة مع العرض الخطي الوحيد الذي سبقه عام 2012، أيّ قبل عشر سنوات تماماً، وبقي أميركياً وحيداً على الطاولة رغم تغيّر الوسطاء الأميركي، وفي عام 2018 قال الوسيط الأميركي ديفيد ساترفيلد أن ليس أمام لبنان سوى خط هوف للتوصل الى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، ولا بدّ من لفت الإنتباه إلى أن كلّ مظاهر الاستنفار الإعلامي الذي يُترجم بعجقة خبراء نفطيين جرى ابتكارهم خلال الفترة الفاصلة بين عرضي هوف وهوكشتاين، أو وثائق وشخصيات تاريخية جرت استعادتها إلى الواجهة، لم يكن لها وجود يوم كان عرض هوف وحيداً على الطاولة، وكان لبنان متروكاً على رصيف الإنتظار.
– لا تستقيم أيضاً مناقشة العرض الخطي كوثيقة أميركية تعترف للبنان بما سبق وطالب به خلال عشر سنوات، بعدما واظبت واشنطن على التمسك بخط هوف، لولا رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري خط هوف وصموده بوجه الضغوط التي ترجمت بإنزال العقوبات الأميركية بمعاونه السياسي النائب علي حسن خليل، ومواظبته على الموقف نفسه حتى تبلور اتفاق الإطار الذي ولد العرض الأميركي في كنفه، كذلك ما كان هذا التبدّل الأميركي ليحدث لولا صمود رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر بوجه ضغوط أميركية بلغت ذروتها بفرض العقوبات الأميركية على النائب جبران باسيل، ومخطئ من يعتقد انّ التعبئة ضدّ حركة أمل والتيار الوطني الحر التي رافقت ثورة 17 تشرين الأول من قبل جمعيات المجتمع المدني، ومنها من يزايد اليوم بمزاعم التمسك بما هو أكثر مما في العرض الأميركي رغم صمت القبور على خط هوف من قبل، كانت تعبئة مبرمجة ضمن الضغوط المطلوبة أميركياً، ومن المضحك المبكي أنّ خلافات أمل والتيار منحت هوامش كبيرة لهذا الاستهداف وشماتة كلّ منهما بالآخر كلما تعرّض للهجوم، وهما بعيون الخصوم واحد، وهذا يتكرّر اليوم بين الحركة والتيار بالتسابق على نسبة الإنجاز لكلّ من الرئيسين عون وبري وتهميش مساهمة الآخر.
– لا تستقيم أيضاً مناقشة العرض الخطي لهوكشتاين، دون الانتباه الى انّ لبنان فقد ورقة قوة قانونية ودبلوماسية بسبب سوء تصرف حكوماته عندما قبلت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة خطاً وهمياً يضيّع الحقوق اللبنانية ويهدرها عبر توقيع اتفاق الترسيم مع قبرص عام 2007، وبنى كيان الاحتلال على النقطة واحد المعتمدة في ذلك الترسيم خطته لوضع اليد على الثروات اللبنانية، ومن ثم مسارعة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي باعتماد الخط 23 وتسجيله لدى الأمم المتحدة تحت شعار تصحيح الخطأ، في ارتكبت خطأ آخر، بتجاهل وثيقة الدراسة البريطانية التي أضاءت على الخط 29، وافقدت لبنان ورقة قوة اخرى، وقد استندت خط هوف على الدعوة لتقاسم لبنان و”اسرائيل” للمنطقة الفاصلة بين خطي السنيورة وميقاتي، ولولا دور الجيش اللبناني وقيادته وخبرائه، والخلفية الوطنية التي تحكمت بحساباتهم، ورد الاعتبار للخط 29، الذي منح لبنان والمقاومة فرصة اعتبار حقل كاريش منطقة متنازع عليها، مع ما يتميّز به من أهمية وحيوية لـ “إسرائيل”، بما جعل الفرصة متاحة لانتزاع كامل الحقوق في الخط 23 والسعي لتقديم صيغة تقاسم لما بين الخطين 23 و29 وفق معادلة كاريش مقابل قانا.
– كل هذا كان بقيَ على الورق لولا تدخل المقاومة بصورة مفاجئة، بالنسبة للأميركي و”الإسرائيلي”، لجهة رسم معادلة لا استخراج من كاريش ما لم ينل لبنان مطالبه، واتباعها بمعادلة كاريش وما بعد كاريش وما بعد ما بعد كاريش، في لحظة تاريخية وصفها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بالفرصة التي لا تعوّض، حيث أزمة الطاقة العالمية وتأثيرها على أوروبا من جهة، وتداعيات حرب أوكرانيا على الحسابات الأميركية لتفادي المزيد من مخاطر النزاعات العسكرية والحروب، لما كان الأميركي و”الإسرائيلي” بوارد البحث عن كيفية إرضاء لبنان لفتح الطريق أمام استخراج قريب للغاز من كاريش، رغم ما يعترف به دبلوماسي أميركي مثل ديفيد شينكر، من انّ لبنان نال كلّ مطالبه، وما تكتبه الصحافة “الإسرائيلية” عن انتصار حزب الله بفرض مشيئته على “إسرائيل”.
– لأنّ الترسيم البحري غير البري، حيث لا مرجعيات موجودة لدى الأمم المتحدة بخرائط يعتمد عليها بل ترسيم رضائي تفاوضي، فإنّ حصول لبنان على الخط 23 وحقل قانا، ولأنّ الشركات العالمية القادرة على العمل في الحقول اللبنانية، شركات غربية وتتبع مواقف حكوماتها بالضغط على لبنان برط العمل بالترسيم بينما لم تفعل ذلك مع الاحتلال إلا عندما وضعت المقاومة صواريخها على الطاولة، فإنّ رفع الحظر عن عمل الشركات العالمية في الحقول اللبنانية، إنجازان كبيران، يضاف إليهما التأكيد الذي تضمّنه العرض بعدم وجود أيّ تأثير أو قيمة قانونية للترسيم البحري على خط الحدود الدولية البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة ومصير التحفظات التي وضعها لبنان على الخط الأزرق، والحديث عن أنّ المطلوب كان التمسك بالخط 29 ورفض العرض الجديد، يشبه الدعوة للتمسك بلبنانية القرى السبع عند التحرير عام 2000 ومطالبة المقاومة بمواصلة القتال حتى تحريرها بداعي وجودها ضمن حدود لبنان في خرائط لبنان الكبير عام 1920، رغم عدم وجودها في خرائط الترسيم الحدودي لحدود لبنان الدولية المعتمدة من الأمم المتحدة منذ عام 1926 بالاستناد إلى اتفاقية “بوليه نيوكامب”، وكما أنّ الذين زايدوا على المقاومة بالدعوة لتحرير القرى السبع كانوا ضدّ المقاومة طوال فترة قتالها وتضحياتها، يبدو المزايدون اليوم بالخط 29 بذات الصورة صمّ بكم يوم كان المعروض هو خط هوف فقط.
– المنزعجون اليوم مهما لبسوا أثواب الطهارة، يمكن الحكم على طهارتهم بالنظر إلى تاريخ مواقفهم من خط هوف، غوغل يدلّكم إذا كان لأحدهم صوت يومها، وما إذا كان لهم صوت اعتراض على ما فعلته حكومة السنيورة يوم أضاع كامل الحقوق اللبنانية، وغوغل يقول إنّ أصواتهم خرجت للضوء منذ عامين فقط، ومعهم مقدمات نشرات الأخبار، وهذا كاف لقياس الطهارة والنجاسة!
– يبقى أنّ الوفد المفاوض، ومن خلفه الرؤساء، معنيون بالتمحيص في النص لكشف القطب المخفية، والتنبّه للكلمات المزدوجة، التي اعتادها الأميركيون منذ القرار 242، ولعب الكلام بين الأراضي المحتلة أو أراض محتلة، وتسجيل التحفظات والتوضحيات التي لا يجب اغفالها من نص الاتفاق.