أحوال الفقراء في ذكرى رحيل زعيمهم!
د. محمد سيد أحمد
يتجدّد لقاؤنا وحديثنا عن زعيم الفقراء، إنه يوم الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول عام 1970 يوم رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، ففي ليلة الإسراء والمعراج رحل زعيم الفقراء وحبيب الملايين، حيث خرجت جموع المواطنين في مصر والوطن العربي ومعهم كلّ الأحرار في العالم لوداعه في جنازة مهيبة لم يشهدها التاريخ من قبله أو بعده، وأثناء تشييع جثمانه خرجت الكلمات من القلوب وعبر الحناجر عفوية دون تجهيز مسبق «يا جمال يا حبيب الملايين»، «رايح فين وسايبنا لمين»، «لا إله إلا الله عبد الناصر aحبيب الله»، «9 و10 أيدناك ليلة الإسراء ودّعناك»، «ناصر يا عود الفلّ من بعدك هنشوف الذلّ». وبالطبع قد يتعجّب البعض اليوم من هذه الحالة النادرة من العلاقة بين الحاكم ومواطنيه والتي لم تقتصر فقط على مؤيديه بل تجاوزت ذلك لتصل لعشق معارضيه.
فهذا هو شاعر العامية الكبير أحمد فؤاد نجم الذي سُجن في فترة حكم الرئيس عبد الناصر يكتب قصيدته الشهيرة «زيارة إلى ضريح عبد الناصر» يرثي فيها زعيم الفقراء قائلاً «السكة مفروشة تيجان الفلّ والنرجس والقبة صهوة فرس عليها الخضر بيبرجس، والمشربية عرايس بتبكي والبكى مشروع، من اللي نايم وساكت والسكات مسموع، سيدنا الحسين؟ ولا صلاح الدين؟ ولا النبي؟ ولا الإمام؟ دستور يا حراس المقام ولا الكلام بالشكل دا ممنوع؟» .. «وكلّ وقت وله أدان، وكل عصر وله نبي، وإحنا نبينا كده، من ضلعنا نابت، لا من سماهم وقع، ولا من مرا شابت، ولا انخسف له القمر، ولا النجوم غابت، أبوه صعيديّ وفهم قام طلعه ظابط، ظبط على قدنا وع المزاج ظابط، فاجومي من جنسنا، ما لوش مرا عابت، فلاح قليل الحيا، إذا الكلاب سابت، ولا يطاطيش للعدا، مهما السهام صابت، عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت، وعاش ومات وسطنا، على طبعنا ثابت، وإن كان جرح قلبنا كلّ الجراح طابت، ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت».
لكن قد يزول العجب عند معرفة أحوال المواطن المصري قبل قيام جمال عبد الناصر ورفاقه بثورة 23 يوليو/ تموز 1952 ويلخص جمال عبد الناصر أحوال المصريين في إحدى خطبه حيث يقول: «500 مليون جنيه مع 700 واحد.. طب والـ 27 مليون عندهم إيه.. ده الوضع اللي ورثناه.. الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية.. لكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد بيكسب نصف مليون جنيه في السنة.. وبعدين كاتب لأولاده أسهم كلّ واحد نصف مليون جنيه .. طب والباقين.. الناس اللي ليهم حق في هذه البلد.. إيه نصيبهم في هذه البلد.. يورثوا إيه في هذه البلد.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغنى إرث والفقر إرث والنفوذ إرث والذل إرث.. ولكن نريد العدالة الاجتماعية.. نريد الكفاية والعدل.. ولا سبيل لنا لهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات.. ولكلّ فرد حسب عمله.. لكلّ واحد يعمل.. لكلّ واحد الفرصة.. ثم لكلّ واحد ناتج عمله».
وبتأمّل كلمات الزعيم تكتشف كيف كانت أحوال المصريين؟ وكيف كانت الخريطة الطبقية؟ وتكتشف أيضاً رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري، وقدرته الفائقة على التشخيص السليم ووضع روشتة العلاج، والتي تمثلت في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحلّ الأمثل والتي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات، لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الإقطاعيين والرأسماليين الأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ، فكان قانون الإصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية، وهو ما أتاح الفرصة لتذويب الفوارق بين الطبقات، وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل إلى حدّ كبير، حيث تغيّرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في تاريخ المجتمع المصري.
وكان جمال عبد الناصر سريع الاستجابة للفقراء وقادر على فهم احتياجاتهم دون تصريح، ففي إحدى زياراته لصعيد مصر توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ عبد الناصر ومرافقوه برجل بسيط يصيح «أنا جابر السوهاجي يا ريس» ويلقي بصرة داخل الديوان الذي يقف فيه عبد الناصر ورفاقه وقعت بين أرجلهم وتملّك الحضور شيء من الارتباك نتيجة المفاجأة، وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرة بحذر، وبعد فتحها كانت المفاجأة أنّ الصرة لا تحوي إلا رغيف من الخبز الناشف (بتاو) وقطعة من الجبن القديم (مش) وبصلة في منديل (محلاوي)، ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمى الرجل بهذه الصرّة في العربة التي يستقلها الرئيس؟! إلا أنّ زعيم الفقراء كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة، وأطلّ برأسه بسرعة من القطار الذي بدأ يتحرك ويأخذ سرعته وهو يرفع صوته في اتجاه الرجل الذي ألقى بالصرة قائلاً له: «الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت»، وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريراً عاجلاً عن عمال التراحيل الزراعيين وأحوالهم المعيشية، وفي خطابه مساء نفس اليوم في جماهير أسوان قال: «يا عم جابر أحب أقولك إنّ الرسالة وصلت، وإننا قرّرنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشاً في اليوم بدلاً من 12 قرشاً فقط، كما قرّر تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة في مصر».
لذلك لا عجب أن يطلق الفقراء على قائدهم جمال عبد الناصر لقب زعيم الفقراء، فقد انحاز لهم قولاً وفعلاً، واتخذ من أجلهم العديد من الإجراءات الحاسمة، ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم، وتحمّل ما يفوق طاقة البشر من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية لكي يتراجع عن مواقفه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الداعمة للفقراء في مصر والوطن العربي والعالم الثالث، لذلك حين وافته المنية خرجت جموع الفقراء في مصر والعالم لوداعه، وما زالت ترفع هذه الجماهير صوره في كلّ مناسبة وفي كلّ بقاع الأرض كرمز للعدالة الاجتماعية…
وفي ذكرى رحيله الثانية والخمسين نعود لنردّد ما أحوج الفقراء في مصر والوطن العربي والعالم لزعيم جديد للفقراء الذين لا يجدون من يشعر ببؤسهم في ظلّ سياسات رأسمالية محلية وإقليمية ودولية تطحنهم دون رحمة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.