الأمر لنا من أوكرانيا إلى غرب أفريقيا والحرب سجال
} محمد صادق الحسيني
كثر الحديث، في الآونة الأخيره، حول انسحابات لوحدات من الجيش الروسي من بعض قواطع جبهات خاركوف وغيرها من الجبهات في جنوب شرق أوكرانيا، كما تكثر التعليقات والتحليلات والسجالات حول أسباب وتداعيات هذه المناورات بالقوات، التي تنفذها هيئة الأركان العامة للجيش الروسي ضمن الخطة الموضوعة وطبقاً لاحتياجات الميدان.
إلا أنّ آلة الإعلام الأميركي (إمبراطورية الكذب)، ومعها أبواق أذنابها في أوروبا و»الشرق الأوسط» وبلدان أخرى، تصرّ على تفسير واحد لمجريات التحركات الروسية على جبهات الدونباس، ألا وهو أنّ القوات الروسية تتعرّض لـ «هزائم» عسكرية على تلك الجبهات ويخرج علينا الكثيرون من «جنرالات الفضائيات، خاصة العربية منها، ليؤكدوا مثل تلك الأوهام الأميركية الأطلسية، حول قوة الجيش الروسي وقدراته القتالية والتسليحية…!
وفي الحقيقة انّ هؤلاء «الجنرالات» يرتكبون أخطاءً فاضحة للحكم على مجريات الميدان في أوكرانيا لجهلهم او تغافلهم المتعمّد لحقيقة العقيدة العسكرية الروسية المضادة للأطلسي.
اذ انّ تقييم سير العمليات العسكرية الروسية يجب ألا ينظر إليها من المنظار الضيق، المحصور في المنطقة الجغرافية التي تشهد تلك العمليات، وإنما يجب أن تقيم في إطار الصراع الاستراتيجي العالمي، بين روسيا وحلفائها من جهة وبين الاستعمار الأميركي خصوصاً والغربي عموماً.
وهو صراع دولي، يأخذ أشكالاً مختلفة ولكنه يدور حول محور واحد؛ ألا وهو إنهاء الهيمنة الاستعمارية الأميركية الغربية على العالم، الأمر الذي نرى انعكاساته الجلية في مناطق وسياقات عدة، على طول وعرض مسرح الصراع في العالم. ولعلّ أبرز الدلائل على انّ المبادرة الاستراتيجية لا تزال وستبقى في يد روسيا، التي تقود هذا الصراع في مرحلته الحالية، التي سجلت فيها روسيا، بقواتها المسلحة ودبلوماسيتها الديناميكية، الكثير من النجاحات الاستراتيجية، وأهمّها هي التالية:
1 ـ نجاح روسيا، وقواتها المسلحة، في إجهاض الهجوم العسكري الشامل، الذي كان يستعدّ له حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ضدّ روسيا قبل العملية الروسية الخاصة الحالية، وهو الهجوم الذي حشدت له واشنطن وبروكسل (حلف الأطلسي) ثمانين ألف جندي أوكراني مسلحين ومدرّبين من قبل الخبراء الأميركيين والأطلسيين، تساندهم ستمئة طائرة حربية، متطوّرة نسبياً، بالإضافة الى تسعة آلاف
دبابة ومصفحة قتالية، الى جانب ما يزيد على ألف ومائتي منظومة دفاع جوي من طراز/ أس 300/ ومئات المدافع الميدانية الثقيلة وأسطول حربي في البحر الأسود وبحر آزوف.
ذلك الهجوم الذي كان مخططاً له ان يجتاح منطقة الدونباس بكاملها، وتنفيذ المجازر ضدّ المدنيين الروس فيه، والاندفاع خارج حدود هذه المنطقة، باتجاه الشرق، في محاولة لتدمير الجيش الروسي الثامن والخمسين، الذي يضطلع بحماية الجبهة الجنوبية الغربية لروسيا، وبالتالي عزل روسيا عن البحر الأسود وبحر آزوف وخلق تهديد استراتيجي لعمق الجنوب الروسي، وصولاً الى ستالينغراد.
2 ـ نجاح القوات المسلحة الروسية، من خلال عملياتها الهجومية الخاطفة، بواسطة القوات الخاصة وقوات الإنزال الجوي، في بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، في تأمين المحطات النووية في كلّ من تشيرنوبيل وزاباروجيا، اللتين كانتا تشهدان نشاطاً نووياً أوكرانياً متقدّماً جداً، يهدف لصناعة أسلحة نووية، بمساعدة واشنطن ودول أطلسية أخرى، في مقدمتها بريطانيا.
ما يعني أنّ القيادتين العسكرية والسياسية الروسيتين قد نجحتا في القضاء على خطر استراتيجي، يهدّد الأمن القومي الروسي، من خلال تسليح أوكرانيا نووياً واستخدام هذه الأسلحة ضدّ روسيا في ما بعد، من قبل واشنطن وبروكسل.
3 ـ كما لا بدّ من الإشارة الى نجاح القوات الروسية، ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، بالسيطرة على العديد من مختبرات الأسلحة الجرثومية (البيولوجية) الأميركية، التي كانت منتشرة في أوكرانيا، وتأمين محتوياتها من وثائق ومواد جرثومية خطيرة وإبلاغ الجهات الدولية المعنية بكافة التفاصيل الضرورية.
4 ـ أما عن النجاحات الاستراتيجية الروسية، خارج الميدان الأوروبي، فلا بدّ من الإشارة إلى ما حققته روسيا من نجاحات في أفريقيا أخيراً بما يشبه اجتياحاً شاملاً، في منطقة دول الساحل ـ ودول الساحل في أفريقيا هي: موريتانيا/ مالي/ النيجر/ بوركينا فاسو/ نيجيريا/ تشاد/ السنغال/ الكاميرون ـ وهي الدول التي عانت من الاستعمار والنهب الفرنسي لقرون، كما أنها عانت طوال العقد الأخير من المجموعات الإرهابيّة، التي رعتها وأدارت عملياتها الإرهابية كلّ من فرنسا والولايات المتحده وموّلت نشاطاتها كل من السعودية وقطر، فيما تولّى القضايا اللوجستية الرئيس التركي أردوغان.
ولكن جهود واشنطن وباريس وأنقرة الهدامة قد أصيبت أخيراً بنكسة كبرى، بعد ان قرّرت دولة مالي إنهاء الوجود الفرنسي هناك، ثم تبعتها بوركينا فاسو من خلال الانقلاب العسكري المفاجئ، وقريباً ستلحق بها النيجر ثم تشاد.
كما تجب إضافة جمهورية أفريقيا الوسطى الى مجموعة الدول الأفريقية المذكورة أعلاه، التي تمرّدت على الوجود الاستعماري الأميركي الغربي، وتحاول أن ترسّخ استقلالها وتسلك طريق التنمية الاقتصادية المستدامة، بمساعدة كلّ من الصين الشعبية وروسيا وبدايات مبادرات إيرانية في المجال نفسه.
أما عن المعنى، أو القيمة الاستراتيجية، لافتكاك هذه الدول من نير الاستعمار الغربي، فذلك يتمثل في أمرين:
أ ـ تأمين الحدود الجنوبية لجمهورية الجزائر، الدولة الحليفة لروسيا والقريبة من شواطئ الأطلسي الجنوبية، في كلّ من إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإيطاليا واليونان، وتأمين حدودها الجنوبية الطويلة مع مالي والنيجر، وما لذلك من أهمية في حماية ثروات الجزائر من النفط والغاز في جنوب البلاد.
وهذا يعني انّ روسيا، ومن خلال دعم استقلال هذه الدول وتقوية العلاقات معها، قد نجحت في إحداث تطويق استراتيجي لحلف شمال الأطلسي، عند خاصرته الجنوبية، ليس فقط من خلال إنهاء الوجود الاستعماري في دول الساحل الأفريقية، وإنما من خلال التعاون العسكري الفعّال بين روسيا والجزائر، التي تمتلك أقوى سلاح جو وسلاح بحرية في أفريقيا، الأمر الذي أدّى بعدد من المسؤولين العسكريين في حلف الأطلسي، الى الإشارة أكثر من مرة الى «المخاطر» التي يشكلها التسليح الجزائري المتطور، لقوات حلف الأطلسي، خاصة في غرب البحر الأبيض المتوسط.
ب ـ أما النجاح الاستراتيجي الآخر، الذي حققته روسيا في صراعها الدولي مع القوى الاستعمارية الغربية الأميركية، فيتمثل في الضربة الاقتصادية الاستراتيجية الفتاكة، التي وجهتها منظمة «أوبيك+»، للولايات المتحدة الأميركية وأتباعها الأوروبيين والآسيويين ـ اليابان وكوريا الجنوبية وجزيرة فورموزا المنشقة عن الصين ـ والمتمثلة في قرار خفض إنتاج النفط بمعدل مليوني برميل نفط يومياً، ما سيؤدّي الى ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ليصل حسب الخبراء الى 120 ـ 150 دولاراً للبرميل الواحد.
كما انّ قرار شركة «أرامكو» السعودية، الذي أعلن عنه أمس، برفع أسعار النفط السعودي المخصّص للسوق الأميركي، يعتبر صفعةً إضافيةً لواشنطن، خاصة أنّ هذا القرار قد صدر عن دولة تابعة لواشنطن منذ ما يزيد عن سبعة عقود، وهو قرار يتعلق بسلعة استراتيجية هامة، ما يجعل تأثيره على الاقتصادات الغربية أكبر بكثير من تأثير قرار سلسلة مطاعم ماكدونالدز الأميركية على الاقتصاد الروسي عندما قرّرت تلك السلسله الانسحاب من الأسواق الروسية.
وبالنظر الى كلّ ما تقدّم فإنّ روسيا لا تزال وستبقى ممسكة بالمبادرة الاستراتيجية على صعيد العالم أجمع، ولا نستثني من ذلك طبعاً المبادرة العسكريّة، خاصة إذا ما نظرنا الى المناورات العسكرية الضخمة التي نفذتها القوات المسلحة الروسية، براً وبحراً مع فروع الجيش الصيني المقابلة في المحيط الهادئ والمحيط الهندي، إلى جانب النشاط العسكري المذهل لسلاح الغواصات الروسي، المقترن بحالة التأهّب النووي القصوى والمناوبة القتالية النووية الروسية، المعلنة قبيل انطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. وما يعنيه ذلك من سيطرة على مسارح العمليات في مختلف أصقاع العالم… كما لا بدّ من التذكير بالغواصتين النوويتين الروسيتين: بيلغورود وخبروڤسك وما تحملانه من «طوربيدات» نووية، يمكن نشرها على سواحل الدول المعادية بانتطار صدور أوامر الانطلاق. وهي الطوربيدات التي يكفي إطلاق واحد منها على بريطانيا لمسحها عن الوجود الى الأبد والتسبّب في تسونامي يبلغ ارتفاع أمواجه خمسمئة متر!
ولا ينبئك مثل خبير.
بعدنا طيبين قولوا الله…