جسر القرم… أسطورة بوتين
} بتول قصير
يعدّ ربط جزيرة القرم الاستراتيجية بالبرّ الروسي حلماً قديماً منذ زمن القياصرة في روسيا، كما في زمن الاتحاد السوفياتي، للقرم أهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا، وملتقى لمصالح دول عدة بما فيها تركيا. فهي تتموضع في البحر الأسود على مقربة من مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطانه بالبحر الأبيض المتوسط من جهة، والقوقاز، بما في ذلك شمال القوقاز الروسي، من جهة أخرى. فكان مشروع تشييد جسر القرم أو «جسر كريتش» الذي يربط جزيرة القرم الاستراتيجية بالبر الروسي حلماً روسياً حققه الرئيس فلاديمير بوتين بنفسه. وهو يكتسب ثقلاً على الصعيدين الاستراتيجي والسياسي والعسكري.
بالعودة الى شهر حزيران/ يونيو من العام الحالي، فقد كشفت المخابرات العسكرية الأوكرانية عن نيتها الحقيقية بتدمير جسر القرم، أحد الإمدادات الهامة لموسكو. كاشفة عن استحواذها على وثائق فنية مفصلة حول بناء «جسر كيرتش»، الذي يربط شبه الجزيرة التي سيطرت عليها روسيا عام 2014 بالأراضي الروسية. وكانت أوكرانيا قد ذكرت أنّ الوثائق الفنية تلك، تحتوي على معلومات مفصلة حول التضاريس وسطح الطريق وأرصفة الجسور والهياكل المضادة للانهيارات الأرضية والمداخل والمخارج وجميع البنية التحتية للجسر، لافتة إلى أنه «طريقة لجلب قوات الاحتياط وعلى القوات المسلحة الأوكرانية قطعه». وأدرج هذا التهديد حينها ضمن إطار «التكتيك التفاوض» من قبل أوكرانيا ضدّ روسيا لوقف تقدّم الأخيرة، او عن نيتها التوسع أكثر للسيطرة على مناطق استراتيجية.
ونظراً لما يجسّده الجسر من أهمية، اذ يعدّ أطول جسر بنته روسيا، وهو أطول جسور أوروبا، بطول يبلغ حوالي 19 كم، فبناؤه تمّ بأوامر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وافتتحه شخصياً عام 2018. وهو طريق إمداد لوجستي مهمّ في شبه جزيرة القرم ومناطق جنوب أوكرانيا التي ضمّتها روسيا إليها مؤخراً. وقد جهدت روسيا في الحفاظ على أمان الجسر، على الرغم من القتال في أوكرانيا، إلا انّ هذا التفجير الذي وقع السبت الماضي جاء بمثابة ضربة موجعة لروسيا وللرئيس بوتين شخصياً، لما يمثل هذا الجسر من رمزية خاصة بالنسبة له. فالضربة التي تعدّ الأقسى منذ اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية منذ ما يقارب الـ 9 اشهر، تحمل رسالة كبيرة داخلياً وخارجياً، مفادها أنّ المناطق التي ضمّتها روسيا إليها سابقاً أو لاحقاً ليست آمنة، ولا يستطيع الجيش الروسي حمايتها بأيّ شكل كان. ورغم إفشال روسيا لأكثر من محاولة لتفجير الجسر من قبل أوكرانيا في نيسان الماضي ولاحقاً في شهر آب/ أغسطس، إلا أنّ هذه الضربة ولو أنها كانت محتملة بالنسبة للأطراف المتنازعة عموماً وروسيا خصوصاً كونها المعني الرئيسي فيها، إلا أنها شكلت صدمة لموسكو، وكارثة حقيقية خاصة في ما يتعلق بعملية نقل البضائع والأسلحة والمقاتلين بين شبه جزيرة القرم وبقية المناطق الشرقية، مما يجعل من الصعب للغاية إحراز تقدّم في خطتها لإنشاء أرض محتلة متصلة بالموارد الطبيعية التي تمتلكها روسيا. فروسيا التي كانت تخطط لتعويض تكاليف الحرب والأضرار الناجمة عن العقوبات عبر ضمّ وبيع تلك الموارد مثل الغاز مقابل أسعار أعلى بكثير.
وعليه فإنّ الردّ الروسي لن يكون دون مستوى الخسارة، فقد أشارت تقديرات إلى أنّ روسيا تدرس جدياً آلية الردّ الذي سيمتدّ خارج حدود أوكرانيا، وتشير بعض المعلومات عن اتجاه موسكو لتصعيد خطير ستتخلله الفترات المقبلة، خاصة أنّ روسيا تعتبر انّ حربها على أوكرانيا إنما هي مواجهة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية كون الأخيرة الداعم الاول لأوكرانيا.يضاف الى التصعيد العسكري المحتمل، فإنه من المتوقع ايضاً حدوث هزة نوعية لأسعار الذهب بالتوازي مع رد الفعل الروسي. فقبل حادثة جسر القرم، وبسبب فشل المعدن الثمين في الإغلاق عند مستويات أعلى من 1700 دولاراً للأونصة، أوضح محللو بنك «كريدي سويس» أنهم يتوقعون تعرّض الذهب لضغوطات هبوطية قوية خلال الربع الرابع، ويتركز الرهان حالياً على ما إذا كانت ستهبّ رياح عكسية تُدخِل العالم في دوامة النزاع الروسي ـ الأوكراني مجدداً؛ علماً أنّ الذهب انخفض سابقاً على الرغم من استمرار الحرب بسبب برود جبهات الصراع نسبياً بعدما تبيّن أنّ الأطراف المتنازعة تخوض الحرب بنفسٍ طويل.
وبناء عليه فإنّ أحداً لا يمكنه التكهّن بما ستؤول إليه مجريات الأحداث، خاصة أنّ مسألة تفجير جسر كريتش تمثل لكمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً، اذ يمثل رمزاً للبراعة الشخصية لبوتين. فقد جاءت التعبئة الجزئية وضمّ الأقاليم الأربعة وإقرار الكرملين عليها بمرسوم أولى الخطوات التي تمّ اتخاذها بعد الحادث. ويرجح ان تنتهج روسيا مزيداً من التصعيد العسكري ضدّ أوكرانيا والأهداف الأوكرانية وستوسع نطاق الحرب، خصوصاً أنّ روسيا تعتبر أنّ التفجير هجوم على السيادة الروسية. بالإضافة الى إقدام روسيا على تنفيذ عمليات نوعية ليست فقط في منطقة الصراع وهي شرق أوكرانيا، إنما أن توسع مرة أخرى في استهداف العاصمة كييف، وربما تستهدف النظام الأوكراني نفسه…