أولى

«إعلان الجزائر»… عوامل مشجّعة

}  معن بشور

من حقّ العديد من أبناء فلسطين والأمّة أن يتعاملوا بحذر مع «إعلان الجزائر» للمّ الشمل من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن حقّ البعض أن يسجل انتقاداته لفقرة من هنا أو لغياب فقرة من هناك.

ففي تجارب الإعلانات السابقة التي تمّت إثر اجتماعات مماثلة على مدى 16 عاماً داخل فلسطين (إعلان الشاطئ)، أو خارجها في العديد من العواصم العربية التي لم يُكتب لها التنفيذ، لسبب أو لآخر، وما يعزّز من هذا الحذر، رغم الإجماع على شكر الجزائر رئيساً وقيادة وشعباً على إطلاق مبادرة تعبّر عن رغبة كلّ فلسطيني وعربي وحرّ في هذا العالم يحرص أن تخرج الحالة الفلسطينية من انقسام ترك آثاراً سلبية كبيرة على القضية المقدّسة لنا جميعاً.

إلاّ أنّ المحلل والمدقق في الظروف التي انعقدت فيها اجتماعات الجزائر المتواصلة منذ مطلع هذا العام، والتي توّجت بالإعلان الأخير، يرى في زمان الإعلان ومكانه عناصر مشجّعة تدعو إلى «تفاؤل نسبي» بإمكانية تنفيذ ولو جزئي لبعض بنوده.

أول هذه العناصر دون شك، وهو المكانة المعنوية والسياسية والنضالية للجزائر لدى كافة الفصائل الفلسطينية، والترابط الوثيق بين ثورة فلسطين المعاصرة وثورة الجزائر التي أعلن قادتها منذ الاستقلال 5 تموز عام 1962، «أنّ استقلال الجزائر لا يكتمل إلاّ باستقلال فلسطين»، وكان من أوّل إنجازات الجزائر الفلسطينية بعد الاستقلال هو افتتاح مكتب لحركة (فتح)، وعلى رأسه الأخ القائد الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) عام 1963، أيّ قبل الرصاصة الأولى في 1/1/1965.

ولكن البعض يقول إنّ للعواصم الأخرى التي انعقدت فيها مثل هذه الاتفاقات مكانة كبرى لدى قيادات العمل الفلسطيني، كالقاهرة والرياض والدوحة، لكن ظروف الانعقاد اليوم في الجزائر مختلفة عن ظروف الانعقاد في العواصم الأخرى.

فالاجتماعات انعقدت في ظلّ انتفاضة شعبية فلسطينية مسلحة تعمّ القدس ومعظم مناطق الضفة الغربية وتحدث ارتباكاً غير مسبوق لدى سلطات الاحتلال المنقسمة أصلاً على ذاتها، والتي باتت تواجه مقاومة نوعية رادعة في غزّة وفي لبنان، مما يجعل العديد من المراقبين يتوقع اندحاراً غير بعيد للاحتلال عن القدس والأرض المحتلة.

وتترافق هذه التطورات الميدانية التي تبرز أهمية المقاومة الشعبية بكلّ أشكالها في مقارعة العدو مع انسداد الأفق أمام ما كان يسمّى بعملية السلام بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني المؤقت الذي يغلق كلّ يوم أبواب التسوية مع الطرف المراهن على التسوية ويضعه أمام إحراج متصاعد أمام شعبه وحتى أمام الدوائر الملتصقة به.

إنّ هذين العاملين المتمثلين في تصاعد المقاومة، لا سيّما بعد معركتي القدس (2021)، ووحدة الساحات (2022)، وفي انسداد أفق التسويات السياسية، وفشل اتفاقية أوسلو التي رفضتها الغالبية الساحقة من الفلسطينيين، يجعلان من حظوظ نجاح «إعلان الجزائر» أكثر من حظوظ الإعلانات السابقة له، علماً أنّ «إعلان الجزائر» يرتكز في العديد من بنوده وعناوينه إلى تراكمات الإعلانات السابقة، فهو ليس انقطاعاً عنها، بل هو تتويج لها، بدليل أنّ الجزائر كانت حريصة على إشراك وفود من عواصم عربية في كواليس اجتماعات الفصائل الفلسطينية، ناهيك عن التواصل مع هذه العواصم خلال عملية التحضير لهذه الاجتماعات.

ومما يزيد من حظوظ نجاح هذه المبادرة الجزائرية التاريخية هو أيضاً المتغيّرات الإقليمية والدولية الجارية اليوم والتي تشي جميعها بتراجع النفوذ الأميركي خصوصاً، والغربي عموماً، في العالم، وتفاقم مظاهر التمرّد في العديد من الدول الحليفة لواشنطن على إملاءات الإدارة الأميركية وهو ما تجلى بوضوح في أزمة إدارة بايدن مع منظمة (أوبك+) التي قرّرت خفض إنتاج النفط في مخالفة تصل إلى درجة التحدي للإدارة الأميركية التي دفعت برئيسها إلى زيارة لدول الخليج والجزيرة العربية حاملاً طلب زيادة إنتاج النفط لتعويض ما أحدثته الحرب في أوكرانيا على تزويد حلفاء واشنطن بالنفط والغاز، ناهيك عن طلبات أخرى كتشكيل ناتو عربي صهيوني أميركي، وكتطبيع بين الرياض وتل أبيب.

ولقد شبّه كثيرون قرار أوبك بتخفيض إنتاج النفط، بالقرار العربي خلال حرب 1973، بقطع النفط عن الغرب وزيادة أسعاره، وهو قرار كانت الجزائر والرياض وبغداد ودول الخليج في صدارة من اتخذه يومذاك لاستكمال الجهد العسكري المصري ـ السوري في حرب تشرين 1973.

فواشنطن اليوم لم تعُد واشنطن الأمس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تل أبيب التي لم تعُد أيضاً هي نفسها قبل سنوات، والتراجع في القوة «الإسرائيلية» والنفوذ الأميركي يعود بالضرورة إلى تحرّر أكثر الأنظمة في المنطقة من الإملاءات الأميركية، وهي التي كانت تلعب دوراً، خفياً، أو معلناً، في تعطيل تنفي هذه الإعلانات.

وإذا أضفنا إلى هذه التطورات، ما رأيناه في خطاب الرئيس محمود عباس أمام الأمم المتحدة من يأس من المسار السياسي لحلّ القضية الفلسطينية، وما رأيناه من إدراك الفصائل المعارضة لأوسلو ونهج التسوية من إدراك لأهمية تحصين الكفاح الفلسطيني بوحدة وطنية تتوّج الوحدة الميدانية المتحققة فعلاً في كلّ المواجهات الدائرة منذ سنوات على أرض فلسطين.

بالإضافة إلى جميع هذه العناصر، نلاحظ أنّ «إعلان الجزائر» حرص في نهاية بنوده التسعة، والتي أبرزها التأكيد على أنّ منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وأنّ المقاومة بكافة أشكالها هي السبيل لتحرير الأرض وانتزاع الحقوق، قد حدّد آليتين للمتابعة إحداهما اجتماع الأمناء العامين للفصائل كهيئة فلسطينية للمتابعة، ولجنة عربية ـ فلسطينية برعاية جزائرية لمراقبة التنفيذ، كما حدّد موعداً لا يتجاوز العام لحصول انتخابات رئاسية وتشريعية داخل الضفة وغزّة والقدس، بالإضافة إلى انتخابات للمجلس الوطني داخل فلسطين وخارجها على قاعدة النظام النسبي

ورغم كلّ هذه الإيجابيات في «إعلان الجزائر» لا بدّ من الحذر الشديد من محاولات المتضرّرين من الوحدة الوطنية الفلسطينية، داخل فلسطين وخارجها، للالتفاف على ما تمّ تحقيقه وإعادة الحالة الفلسطينية إلى المربع الأول من الانقسام، وهو ما يستدعي استنفاراً سياسياً وشعبياً عربياً وإسلامياً ومن كلّ مناصري فلسطين في العالم للدفاع عن تنفيذ هذا الإعلان، رغم قناعتي الأكيدة أنّ مسيرة تحرير الأرض المحتلة داخل فلسطين مستمرة، وأنه إذا تعذرت الوحدة السياسية على قاعدة المقاومة، فإنّ الوحدة الميدانية على هذه القاعدة مستمرة، ومن يريد التأكّد من هذا فليسأل أهل المخيمات والتجمعات الفلسطينية داخل الوطن وفي الشتات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى