المشهد العربي: من التحوّلات في موازين القوّة في العالم إلى المراجعة في الخيارات والسياسات
} زياد حافظ*
قمة منظمة شنغهاي التي عُقدت في سمرقند في أوزبكستان في 15 و16 أيلول/ سبتمبر 2022 شكّلت محطّة أساسية في مسار ولادة نظام عالمي جديد متعدّد المحاور يكون أحد محاوره مكوّنات المنظمة. فحضور دول مراقبة للقمة أعطى البعد العالمي لهذه المنظمة خاصة في ما يتعلق بالقرارات الاستراتيجية التي أقدمت أو ستقدم عليها تلك الدول. فمن تداعيات تلك القمة الضوء الأخضر الذي حصل عليه الرئيس الروسي لحسم معركة أوكرانيا بعد لقاءاته المطوّلة مع الرئيس الصيني ورئيس وزراء الهند على هامش المؤتمر. فالخطوة التي تلت كانت إعلان الاستفتاء في المقاطعات الأربع والتي تلاها الانضمام إلى الدولة الاتحادية الروسية. وهذا يعني أنّ وجود القوّات الأوكرانية في تلك المقاطعات أصبح “احتلالاً” و”عدواناً” يجب إنهاؤه بكافة الوسائل المتاحة. هذا كان فحوى خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اعتبره الحلف الانجلوساكسوني الذي يقود الغرب أنه تهديد باستعمال السلاح النووي. هذا خلق ذعراً في العالم سرعان ما تراجعت الدوائر الأميركية في نفي لأيّ دليل على إقدام روسيا على ذلك الاستعمال. المهمّ هنا هو حالة الإرباك والتخبّط داخل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي الذي تراقبه دول الجنوب الإجمالي للوصول إلى قناعة ضعف الغرب موضوعياً وذاتياً.
ومن جملة التفاهمات التي حصلت في قمة سمرقند تلك التي أقيمت بين روسيا وبلاد الحرمين حول ضرورة إعادة الاستقرار إلى سوق النفط. فالولايات المتحدة حاولت التدخل في آليات السوق، بل حتى إلغائها، عبر فرض سقف لأسعار النفط الروسي ومعاقبة كلّ من يخالف ذلك القرار، وعبر الضغط على بلاد الحرمين ودول الخليج لزيادة الإنتاج النفطي. فبالنسبة لدول الخليج المنتجة للنفط وخاصة لبلاد الحرمين هكذا أمر يهدّد استقرارها. كما أنّ تراجع القوّة الشرائية للدولار بسبب التضخّم في الولايات المتحدة والعالم وارتفاع أسعار معظم السلع يؤثر بشكل مباشر على إيرادات الدول النفطية خاصة إذا ما نتجت عن انخفاض قسري للأسعار. من جهة أخرى، فإنّ القرارات العبثية للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي بفرض العقوبات يميناً وشمالاً والتي أتت على أعقاب القرارات بإيقاف عجلة الاقتصاد لمواجهة جائحة كورونا، أدّت إلى تراجع في عرض الإنتاج للسلع ما أدّى إلى ارتفاع أسعارها وخاصة في المواد الغذائية وما يساهم في إنتاجها. كما أنها سرّعت في تباطؤ الاقتصاد الغربي الذي دخل مرحلة انكماش كبير قد يؤدّي إلى حالة كساد في الغرب وانعكاسات ذلك على الاقتصاد العالمي. هذا يعني تراجع في الطلب على الطاقة يؤدي إلى خلل في التوازن في سوق النفط فيأتي قرار أوبك + ليعالج تلك الحالة عبر التأكيد على ضرورة الحفاظ على استقرار سوق النفط والحفاظ على آلياتها وإخراجه من القرارات التعسفية التي تحاول فرضها الولايات المتحدة.
لذلك نستطيع أن نقول إنّ قمة سمرقند كانت الترجمة الفعلية لنظام دولي جديد مبني على التشاور بين الدول واحترام المصالح المتبادلة. ومن هذه المصالح الحفاظ على آليات سوق النفط وعدم السماح لدول خارج إطار التجمع لمنتجي النفط المساس بتلك الآليات. ومشاركة دول الخليج في ذلك القرار خير دليل على مدى تراجع نفوذ الولايات المتحدة. هذه إشارة إضافية تؤكّد أنّ زمام المبادرة أصبح خارج دائرة الولايات المتحدة وأنّ كافة قراراتها هي بمثابة ردّ فعل على فعل آت من خارجها.
وإذا كانت قمة سمرقند غير كافية عند المشكّكين في يقين التحوّلات الدولية وانعكاسها على الخيارات والسياسات العربية فإن قمة أستانا التي عّقدت في 13 و14 تشرين الأول/ اكتوبر 2022 للمؤتمر السادس لمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سي أي سي آ/ CICA) كرّست المناخات التي نتجت عن قمة سمرقند. فهذه المنظمة التي نتجت عن فكرة أطلقها رئيس كازخستان نورييف في 1992 على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة أقامت قمتها الأولى سنة 2002 وتعقد اجتماعات قمّتها كلّ أربع سنوات. المنظمة تضمّ 28 دولة آسيوية وعربية ما يجعل الجسر بين آسيا والوطن العربي قائماً. فحضور مصر والعراق والكويت وقطر والإمارات وفلسطين خير دليل على ذلك. وهذه المنظمة عقدت شراكة مع منظمة شنغهاي ومنظمة الوحدة الاقتصادية الأوراسية ومجموعة دول بريكس دون البرازيل ما يعطي بعداً أوسع لها. كما يؤكّد وجود منظمات تعمل في إطار الرؤية الجديدة لنظام عالمي مبني على الندّية والاحترام المتبادل وعلى ضرورة ترسيخ الشراكة بين الدول على قاعدة رابح ـ رابح وليس على قاعدة اللعبة الصفرية التي يفرضها الأطلسي بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.
عدد كبير من المشكّكين في جدّية موقف دول الخليج وخاصة موقف حكومة الرياض تعتبر أنّ “التمرّد” هو فقط على إدارة بايدن وشخص الرئيس وليس على التحالف الأميركي. وأنّ تلك الدول تراهن على إخراج بايدن وإدارته من الحلبة السياسية في الولايات المتحدة بعد الانتخابات النصفية وخاصة بعد انتخابات الرئاسية في 2024. لا يمكن إنكار جدوى ذلك المنطق إلاّ أنّ مسألة التحوّل في الموقف الخليجي ليس وليد الساعة بل أنّ الموقف المستجد ناتج عن قراءة متدرّجة للتحوّلات في العالم. وقد شهدت تلك الدول في ولاية ترامب عجز وأو عدم رغبة الإدارة في تقديم الحماية الفعلية لهذه الدول، أي الخروج الفعلي على قاعدة الشراكة الاستراتيجية التي حكمت العلاقات لأكثر من سبعة عقود وهي الأمن للدول مقابل النفط للغرب. وذلك رغم تبجّج الرئيس ترامب بأن لولا الحماية الأميركية لنطقت دول الخليج بالفارسية. كما تمّ اختبار نوعية السلاح الأميركي وخاصة وسائل الدفاع الجوّي أمام الصواريخ والمُسيّرات اليمنية في حماية المنشئات النفطية في الجزيرة العربية وفي الخليج العربي. أما الانسحاب الكارثي من أفغانستان بعد احتلال دام 20 سنة فهذا يعني أنّ القوّة الأميركية لها حدود خاصة إذا ما واجهت مقاومة جدّية شعبية فما بالك من مقاومة تجمع الدولة والمقاومة الشعبية كما هو قائم في محور المقاومة. والمؤشرات عن المراجعة في الخيارات العربية بدأت منذ عدّة سنوات وخاصة بعد اللقاءات بين ولي العهد في بلاد الحرمين وقادة الصين وروسيا واحتفائهم به في المناسبات العديدة التي كانت مسرحا لتلك اللقاءات. ما يؤكّد ذلك التحوّل في الخيارات وعدم اعتباره محصوراً ببلاد الحرمين العلاقة الحميمة بين دولة الإمارات وروسيا والتي تجلّت في الاستقبال الحافل لولي العهد في سان بطرسبورغ في قصر بطرس الأكبر.
وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض لم يوجد ذلك التحوّل بل سرّع وضخّم وتيرة وسرعة الإعلان عن المواقف الجديدة. أخطاء الرئيس الأميركي في وصف بلاد الحرمين بلداً منبوذاً (Pariah State) ومطالبة بمحاسبة ولي العهد في جريمة مقتل جمال الخاشقجي خلال حملته الانتخابية وإلغاء قرار صفقة بيع طائرات أف 35 بقيمة 23 مليار دولار وإن تراجع عن ذلك القرار بعد ضغط المجمع العسكري الصناعي، فكلّ ذلك زاد من حذر المسؤولين في الرياض من جدّية أو حتى جدوى التعامل مع تلك الإدارة. حكومة الرياض لن تقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً بل تعمل على إيجاد توازن في علاقاتها مع الدول بما يخدم مصالحها وليس مصالح طرف واحد أيّ الولايات المتحدة. الطلاق المرتقب لن يأتي من الرياض بل ربما من الولايات المتحدة كما تظهره تصريحات متعددة للمسؤولين الأميركيين وفي مراكز الأبحاث السياسية.
في المقابل هناك من يراهن على إقدام الدولة العميقة في الولايات المتحدة على تغيير وجه القيادة في بلاد الحرمين. غير أنّ موازين القوّة في داخل بلاد الحرمين تميل بشكل واضح إلى توجّهات ولي العهد ما يخفّف من احتمالات انقلابية في المدى المنظور. فبلاد الحرمين تتمتع بأكبر نسبة الشباب في العالم دون سنّ الـ 35 من أجمالي السكان حيث وصلت إلى 67 بالمائة ما يجعلها أكثر الدول في العالم فتوّة وبالتالي هناك تفاعل إيجابي مع ولي العهد. كما لا نستبعد وجود حماية دولية وإقليمية لتلك التوجّهات الجديدة في الجزيرة العربية ودول الخليج ما يحيّد فعّالية المراهنة على “العودة إلى بيت الطاعة” الأميركي.
وبالتالي فهذا المناخ الجديد ينذر بانفراجات على الساحات الساخنة في عدد من الدول العربية. ففجأة انحلّت المعضلة السياسية في انتخاب رئيس جمهورية العراق وتسمية رئيس وزرائها. وفجأة تُوّجت جهود الجزائر في إعلان وحدة الموقف السياسي للفصائل الفلسطينية ما يجعل المواجهة مع الكيان الصهيوني أكثر خطورة بالنسبة للكيان. وفجأة نرى وفداً من بلاد الحرمين في صنعاء للتفاوض حول الأسرى كما شهدنا تمديداً للهدنة في اليمن. وفجأة وجدت مشكلة تقاسم الثروة البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة طريقاً للحلً والإنجاز بينما كانت منذ فترة في حالة الاستعصاء. هذا قد يؤدّي إلى ولادة حكومة وربما الى تفاهم على رئيس جمهورية للبنان.
من جهة أخرى نلاحظ التغيير الكبير في لهجة الرئيس التركي تجاه سورية وإمكانية التفاهم على الملف الكردي ما يجعل إمكانية الانفراج السياسي بين الدولتين أكثر حظوظاً. فضغوط روسيا وإيران على تركيا والإغراءات التي عرضت على الرئيس التركي في تعويم اقتصاد تركيا المأزوم والعزلة السياسية الغربية تجاهه قد تدفعه في الحدّ الأدنى إلى تحييد التزامه بالحلف الأطلسي وفي الحدّ الأقصى إلى الخروج منه ما يشكّل في الحالتين نصراً جيوستراتيجياً لروسيا والدول المتحالفة معها. فقرار جعل تركيا ممرّاً أساسياً للغاز الروسي بعد تخريب نورستريم 1 و2 عرض لا تستطيع تركيا رفضه لما يعطيها من قوّة جيوسياسية ومردود مالي.
كما لا نستبعد عودة العلاقات بين بلاد الحرمين وسورية وسائر دول الخليج التي كانت قد سبقت حكومة الرياض في التقارب مع دمشق. أيّ ما نريد أن نقوله إننا نشهد انفراجات في ساحات عربية لم تكن مرتقبة عند العديد من المراقبين وإنْ لم نكن من بينهم. فقد توقّعنا الانفراجات منذ فترة عندما رصدنا التحوّلات وانعكاساتها على الساحات العربية. هذا لا يعني أنّ زمن التسويات قد بدأ بل أنّ مسار الأمور لم يعد كما كان مرسوماً من قبل الأطلسي ما سيؤدّي إلى تفاهمات بين الأطراف العربية على قاعدة تلك التحوّلات في موازين القوّة.
لا نسقط من حساباتنا إمكانية حصول انتكاسات في مسار التقارب بين دول الخليج ودول الكتلة الاوراسية إلاّ أنّ قدرة الولايات المتحدة على كبح ذلك التقارب محدودة جدّاً في ظلّ الموازين الجديدة. فاستحقاقات الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة قد تفضي إلى ضعف متزايد في إدارة الرئيس الأميركي الذي سيواجه الكونغرس الأكثر شراسة وقد يعطّل كلّ برامجه السياسية الداخلية. صحيح أنه هناك توافق بين قيادات الحزبين في الملفّات الخارجية لكن هذه القيادات قد تواجه تمرّدات من قبل قاعدتها الشعبية وحتى بين النوّاب الرافضين لأيّ تصعيد عسكري في الخارج. الأولوية ستكون على الملفّات الداخلية حتى إشعار آخر. أما على الصعيد الخارجي فالتصدّعات داخل دول الاتحاد الأوروبي بسبب قرارات الأخير بحق روسيا وما نتج من أزمة في الطاقة والأسعار يضعف من فعالية الولايات المتحدة في تغيير مسار الأمور في المشرق. وما يزيد الطين بلّة هو “التمرّد” الحاصل في دول الجنوب الإجمالي وخاصة في إفريقيا على القرارات الأميركية. هذا يعني أن أفول الهيمنة الأميركية أصبح واقعاً سياسياً وليس من باب التوقّعات والتكهّنات. لذلك حقيقة نظام دولي جديد يساهم في تغيير المناخات المتشنّجة في الساحات العربية وهذا قد يؤدّي إلى انفراجات تستفيد منه شعوب المنطقة أذا ما أحسنت نخبها الحاكمة إدارة الملفّات الساخنة.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي