مقالات وآراء

قراءة في حيثيات الترسيم وتقاسم الحقول البحرية

} د. عدنان نجيب الدين

قد يشعر البعض منّا بخيبةِ أملٍ كبيرة بسبب الخلاصة التي أفضت إليها المفاوضات غير المباشرة مع العدوّ «الإسرائيلي»، كما قد يشعر البعض الآخر بأنّ هناك انتصاراً كبيراً قد تحقّق ويجب الاحتفال به

وهذه الخلاصة يسمّيها البعض ترسيماً للحدود البحريّة بيننا وبين العدوّ، ويسمّيها البعض الآخر تقاسماً للحقوق. وكلتا التّسميتان لا تعبّران عن الحقيقة فترسيم الحدود يكون عادة بين دولتين تعترفان ببعضهما البعض، ويملك كلّ منهما شرعيّة قانونيّة.

ففي حين أنّ لبنان دولة ذات سيادة وله حدود معترف بها دوليّاً. فإنّ الكيان «الإسرائيليّ» «دولة» معترف بها دوليّاً لكنها تفتقد إلى الشرعيّة لأنها قامت على أرض مغتصبة وهي فلسطين التي طرد شعبها منها بالقوّة، وهذا ما يعدّ في القانون الدوليّ جريمة ارتكبها الاستعمار البريطانيّ والقوى الدوليّة الأخرى التي ساندت العصابات الصهيونيّة وكان لها ضلع في إعطاء أرض لا يملكونها إلى من أتوا من دول أخرى ليس بينهم من جامع إلا الديانة اليهوديّة التي جرى تحريفها.

والمعروف أنّ هذا الكيان «الإسرائيلي» الغاصب ليس له حدود نهائيّة معترف بها، وهو الدولة الوحيدة في العالم التي تمّ قبولها في الأمم المتحدّة من دون أن تعرف لها حدود. والمعروف تاريخياً أنّ المنظمة الأممية قد أقرّت في العام ١٩٤٧ قيام دولتين على أرض فلسطين، واحدة عربية والأخرى يهوديّة، وبحسب قرار التّقسيم يقع الجليل بمعظمه إضافة إلى السّاحل الفلسطيني الموازي وصولاً إلى عكا ضمن كيان الدولة العربية الفلسطينية. لكن الصهاينة احتلوا في ما بعد كل ّفلسطين، وجاؤوا اليوم يطالبوننا بحقوق لهم في كاريش وغيرها ويعتبرون ما يسمّى حقل قانا تنازلاً منهم مقابل تعويضات من عائدات الغاز.

فعن أيّ حقوق يمكن لهذا الكيان الغاصب أن يتحدّث؟ وكيف يصف البعض عندنا الاتفاق الذي حصل بأنه تقاسم للحقوق؟ وهل الذي اغتصب فلسطين يملك حقوقاً فيها أصلاً؟

إنّ ما نتج عن المفاوضات التي أدارها الوسيط الأميركي الصهيوني بين لبنان وهذا الكيان الغاصب ليس ترسيماً للحدود القانونيّة للبنان بل تنازل عن حقوقنا التي تشمل ما بعد الخط ٢٩ بحسب قانون البحار والدراسات القانونية ومنها دراسات الجيش اللبناني والشركة البريطانيّة التي كلّفتها الدّولة اللّبنانية لاستكشاف المدى البحريّ للحدود الخاصّة بنا.

وبناء عليه، فما حصل ليس ترسيماً قانونياً للحدود ولا تقاسماً شرعيّاً وعادلاً للحقوق، وإنّما اعتداء علينا من جانب العدو وتنازل منا عن حدودنا وحقوقنا

تلك هي المأساة في هذه الاتفاقيّة، فضلاً عن بعض الأمور الملتبسة التي وردت في متن هذه الاتفاقية.

لقد اعتاد معظم المسؤولين في النّظام السياسي اللبناني على ألا يأخذوا قراراً يختصّ بسيادته ولا أن يربطوا أمراً أو يحلّوه إلا بعد موافقة من أنشأ كياننا اللّبناني وتآمر على شعب فلسطين واغتصبها لصالح الصّهاينة.

هكذا هي الأنظمة التي ركّبتها القوى الاستعمارية لحكم بلادنا والتّحكّم بشعوبنا، إنّها لا تعمل إلا وفق معايير ومقاييس معينة تهدف إلى خدمة مصالحها الخاصّة التي تمرّ عبر مصالح القوى المهيمنة على مقدّرات شعوبنا

لكن ماذا عن المقاومة؟ هل من عتب عليها وهي التي لم تبخل بتقديم التّضحيات الجسام لتحرير جنوب لبنان وإعادة سيادة الدّولة عليه بعد طرد الاحتلال الإسرائيلي عن ترابه؟

وهي التي قال سيّدها إنّه يقف خلف الدّولة لتحصيل الحقوق من دون أن يقرّ بالخطوط لأنه لا يعترف لا بخطوط ولا بحدود للكيان «الإسرائيلي» ولا بوجود شرعي له، لأنه كيان معتد غاصب لأرض ليست له أصلاً.

وهنا نطرح السؤال؟ إذا كانت المقاومة وضعت نفسها بثقلها لتحصيل حقوق لبنان، فلماذا التّساهل مع العدوّ والتنازل عن تحصيل كامل الحقول؟

صحيح أنّ لبنان بفعل قوّة المقاومة وتهديدها العدو بالحرب إن لم يسلم للبنان بحقوقه، قد حصل على أكثر مما كان الأميركي يعرضه علينا ايّ القبول بخطّ هوف الذي يقتطع قسماً كبيراً من حقوقنا لصالح العدوّ، وصحيح أنّ لبنان حصل على كامل المنطقة شمال الخط ٢٣ زائد حقل قانا، والأهمّ من كلّ ذلك رفع الحظر الأميركي عن مجيء الشركات للتنقيب واستخراج الغاز من حقولنا، لكن ماذا عن المساحة القانونية للبنان التي تمتدّ إلى جنوب الخط ٢٩؟

ما هو موقف المقاومة بعد كلّ الذي حصل؟ وهل صحيح أنها فرّطت بحقوق لبنان؟

المنطق يقول إنّ مقاومة شريفة ومضحية كالمقاومة اللّبنانية لم تسكت عن ضيم ولا إجحاف بحقوق شعبها لا يمكن أن تكون قد ارتكبت جرم تنازل أو تطبيع ولا حتى شبهة تطبيع.

فلماذا قبلت إذن بما حصل؟

يبدو كما لو أنّ المقاومة قد هادنت الدولة في هذه المسألة ولا نقول سلّمت لها، لأنّها ترفض التسليم أصلاً للعدوّ بأيّْ حق في منطقتنا؟

قد لا يبدو الأمر واضحاً لكثيرين، وهنا نذهب الى التحليل لأننا لا نملك المعلومات المؤكّدة فنقول ما يلي: يبدو أنّ المقاومة، وضمن المعطيات الموجود والمخطّطات المرسومة للبنان، قد حققت للبنان الأهمّ وهو حقه في استخراج غازه وبيعه، لكنها وُضعت بين خيارين أحلاهما مرّ: حرب أهليّة قد تفتعلها بعض القوى الكبرى الدّاعمة للكيان الصّهيوني لا سيما أميركا، حيث كان سيزجّ في أتونها لبنانيّون وغير لبنانيّين مع ما يرافق ذلك من ويلات تهجير ودماء ودمار، ومعروف أنّ المقاومة تتجنّب دائماً ايّ حرب داخلية تحرفها عن صراعها مع العدو، وربما أيضاً حرب على لبنان مدمّرة لنا وللعدو، وليس كلّ اللبنانيين جاهزين لدفع الثمن وسيحمّلون المقاومة وحدها المسؤولية، أو الموافقة على ما قرّره المسؤولون الذين تساهلوا كثيراً بحجة الواقعية ربما خدمة لمصالح خاصّة فجرت الإطاحة بكلّ المستندات والمواثيق والخرائط الممهورة بتوقيع ممثّلي الدّولتين اللتين كانتا منتدبتين على لبنان وفلسطين، والتي تثبت حقّ لبنان في ما هو أكثر ممّا حصل عليه نتيجة الترسيم المزعوم، علماً بأن العدو الصّهيوني لا يملك أي شرعيّة قانونيّة، لأنه مغتصب لحقوقِ شعبنا في لبنان وفلسطين وسوريى وكلّ أرض أو ثروة عربيةوهنا يمكننا القول إنّ هذه الاتفاقية تشبه إلى حدّ بعيد اتفاقية الهدنة لعام ١٩٤٩ التي انتقصت من حقوق لبنان في أرضه المتاخمة لفلسطين وجرى إلحاق القرى الحدودية السبع بالكيان المحتلّ، وهذه أيضاً يجب تحريرها عاجلاً أم آجلاً.

وهنا نسأل ماذا بعد؟

كلنا نسلّم بأنّ حقوقنا أكثر مما حصّلنا عليه، ولكم ما هو المطلوب الآن؟

هل من هو مستعدّ اليوم ممن اعتادوا رفع الأعلام وترديد الشّعارات السيادية للزحف عسكريّاً ودعم المقاومة والتّضحية بالأرواح والدّماء والممتلكات وتحمّل كلّ العذابات في سبيل تحرير باقي الثروة البحرية، أم انهم سيطالبون المجتمع الدولي بتأمين حقوقنا وينتظرون القرارات الدولية التي لم تحرّر شبراً في لبنان ولا في الجولان ولا أعادت فلسطين لأصحابها الشرعيين، أم انهم فقط سيقولون للمقاومة ما قاله اليهود للنبي موسى: اذهب انت وربّك فقاتلا إنّنا ههنا قاعدون؟

وأخيراً نقول وبكلّ يقين إنّ حقوقنا سنحصل عليها في كاريش وغيرها بل وسيحصل الفلسطينيون أيضاً على حقوقهم في كلّ الأرض الفلسطينيّة وبحرها، ولن ينجح الأعداء المحتلّون ومعاونوهم في السّطو على حقوقنا إلا لفترة قصيرة، والمستقبل ليس لصالحهم. فما أملته الظّروف اليوم لن تكون هي نفسها غداً، وهناك تغييرات كبرى آتية وهي لمصلحتنا إنْ شاء الله، وكلّ مقصّر او متواطئ او خائف على مصالحه الشّخصيّة سوف يندم على ما اقترفت يداه وسوف تصحِّح المقاومة في لبنان وفلسطين هذا الوضع لأنّ التحرير آت لا محالة، والكيان الصهيوني لا مستقبل له في منطقتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى