محرك السياسة الخارجية الأميركية «thinks tanks»
} بتول قصير
يقول دونالد ابلسون أنه «في حين أصبحت مؤسسات الفكر والرأي في السنوات الماضية «ظاهرة عالمية» فإنّ مؤسسات الفكر الأميركية تتميّز عن نظيراتها في البلدان الأخرى بقدرتها على المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في صنع السياسة، وفي استعداد صانعي السياسة الى العودة اليها للمشورة السياسية».
تأخذ المراكز البحثية جلّ اهتمام الدول والأنظمة والحركات السياسية والمفكرين، وقد مرّت بتطورات وتغيّرات كثيرة تبعاً لتطور وتعقد العلاقات السياسية والاستراتيجية، وغدت وسيلة لتكريس شرعية صنع القرار في الدول وخاصة سياساتها الخارجية.
ففي الولايات المتحدة الأميركية تلعب مراكز التفكير دوراً كبيراً في تشكيل السياسية الخارجية الأميركية، إذ يطلق عليها مصطلح Thinks Tanks.
تعنى هذه المراكز بتحليل ودراسة كلّ ما يتعلق بالقضايا الهامة، الأمر الذي جعل منها لاعباً هاماً في تحديد أولويات القضايا الاستراتيجية التي تواجه الولايات المتحدة. فالتوجهات السياسية الأميركية لا تعتمد على السياسيين والأحزاب فحسب، بل إنّ التأثير الأكبر على سياسة أميركا تجاه القضايا الداخلية والخارجية عادةً ما يصدر من بيوت الخبرة أو خلايا التفكير كما يطلق عليها، لتشكل قاعدة معلوماتية واستراتيجية للأحزاب والحكومات، وتساهم بشكل كبير في تحديد المسارات التي يجب أن تسلكها الحكومة الأميركية في تعاملها مع مختلف القضايا، راسمة استراتيجيات واشنطن وساستها. وهي تعدّ من أبرز سمات المجتمع المدني والسياسي الأميركي لما لها من تأثير مباشر وغير مباشر علي مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، وأهميتها البالغة في صياغة السياسة الخارجية الأميركية.
وبما أنّ النظام الأميركي يسمح لمختلف القوي والتيارات المجتمعية الإدلاء برأيها والتأثير في السياسة الخارجية والداخلية دون أن يعني ذلك بالضرورة حدوث انقلاب حادّ في التوجهات العامة للحكومة الأميركية، فإنّ مؤسسات الفكر والرأي حظيت باهتمام خاص لأنّ فيها منبع لمختلف الأفكار والنظريات التي تؤثر بشكل أو بآخر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فالقدرات اللوجستية والإمكانيات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية التي تشرع الولايات المتحدة في استثمارها ضمن مشاريعها الخارجية، لا تقارن بمثيلاتها في الدول الأخرى. وهذا ما يعكس الاهتمام الذي يوليه الساسة في أميركا لمثل هذه المراكز التي شكلت رابطة وثيقة بينها وبين المتعاقبين على السلطة. فـ بالنظر لمدى العلاقة بين الإدارات الأميركية المختلفة ومراكز الفكر الأميركية نجد أنهم سلموا وأجمعوا على الاعتراف بعدم إمكانية بناء سياسات استراتيجية فاعلة دون الاعتماد على مراكز «الثينكس تانكس»، فمنذ تولي جيمي كارتر مقاليد الحكم، مروراً ببيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، والذين اعتمدوا في سياساتهم الداخلية كما الخارجية على تلك المراكز. فإنّ سياسة دونالد ترامب التي قدّمت نموذجاً مختلفاً الى حدّ ما وصف بالتهوّر والحماقة، بحيث أظهرت بعض الأبحاث والدراسات أنّ البيت الأبيض في عهده كان أقلّ اهتماماً بمراكز الفكر عن الإدارة السابقة للرئيس أوباما وأقلّ اعتماداً عليها أيضاً، اذ جاءت سياسته صريحة من البداية بأنها لا تعني أيّ اهتمامات لمراكز البحوث ولا تثق في خبرائها وأنّ الرئيس ترامب كان يشكّ في مصداقية أيّ عمل تقوم به مؤسسة بحثية أو أيّ منشاة فكرية أميركية، فكانت أبرز الأدلة على الإخفاق السياسي في عهده يتعلق بالملف النووي الإيراني، ضارباً عرض الحائط رأي تلك المراكز التي نبّهت لخطورة الموقف. أما المسار الحالي لإدارة جو بايدن فيمكن توصيفه بأنه شبيه بحقبة باراك أوباما من حيث السياسة الخارجية والتي اعتمدت بشكل كبير على تلك المراكز حينها وانتجت تبني اتجاهات سياسية معينة، بما فيها الملف النووي الإيراني والعودة الى طاولة التفاوض ولو بشكل الـ «on/off».
وعليه فإنّ مؤسسات الفكر حسب طرح العديد من الباحثين، جاءت لتسدّ فراغاً في غاية الأهمية بين العالم الأكاديمي من جهة، وعالم الحكم من جهة ثانية ايّ بين عالمي الأفكار والعمل. وانطلاقاً من المبدء عينه كان اختيارنا لدراسة إشكالية دور مراكز الأبحاث الأميركية لسببين رئيسيين، الأول: انّ الولايات المتحدة الأميركية بخروجها من الحرب الباردة منتصرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وسعيها للهيمنة والتفرد بالقرار الدولي، يحمّلها مسؤولية لما آلت اليه أوضاع العالم اليوم. والثاني: هو انّ سياسات الولايات المتحدة الأميركية تكون قد وجدت مرجعيتها في دراسات وتوصيات خبراء مراكز الأبحاث، لما لهذه المراكز من تأثير على صناع القرار.
وتأسيساً لكلّ ما سبق، نخلص إلى أنّ هذه المؤسّسات قامت بدور هامّ في صنع السياسة الأميركية أثناء مختلف الإدارات المتعاقبة، وبرزت كجزء من حركة التحديث الأميركية تهدف إلي تعزيز الأداء المهني للأجهزة الحكومية الأميركية وتركزت نشاطاتها أساساً على تقديم المشورة السياسية للإدارات المتعاقبة. فقوة الولايات المتحدة ودورها الريادي الامبراطوري تقف وراءه النشاط المتزايد لهذه المراكز وما تضمّه من المفكرين والخبراء، من أجل تقديم المسالك الأكثر ضماناً لتلك القوة الامبراطورية ولشبكات المصالح والمنافع التي تتحرك في كنفها. ويبدو أنّ صعود الدور المعاصر لمراكز الأبحاث تلازم مع مرور وصعود الولايات المتحدة كقوة قائدة على المستوى الدولي في الفترات الأخيرة مما يبرهن على مدى فعالية دور هذه المراكز في صنع القرار الأميركي الذي أدّى بدوره إلى تلك المكانة التي تتبوأها الولايات المتحدة وتفرّدها الأحادي.