التراجع أمام تهديد المقاومة بالحرب: أول التسليم الأميركي بالمتغيرات
ناصر قنديل
ــ لن يفاجأ مَن يقرأ نص الوثيقة الأميركية حول استراتيجية الأمن القومي، وغياب أي أجوبة عملية على فشل نظام العقوبات الذي كان كل ما جرى تسويقه حوله أنه السلاح القادر على الحلول مكان العجز عن خوض الحروب العسكرية، وجاء الاختبار الأهم عندما وقعت المواجهة مع روسيا في أوكرانيا، وتمّ بناء التوقعات العالية السقوف لنتائج العقوبات على روسيا. وجاءت النتيجة تقول بالفشل الذريع. والفشل الموازي في تدارك أزمة طاقة عالمية شكلت هدفاً لكل استراتيجيات الأمن القومي الأميركي طيلة عقود. وعندما جاءت ساعة إثبات الفعالية تكشفت عن إخفاق استثنائي بدخول العالم أزمة طاقة غير قابلة للاحتواء، وعدم المفاجأة ناجم عن وضوح وصراحة ما تضمنه كلام وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن حول مرور العالم بمرحلة انتقالية، سقطت خلالها قواعد النظام العالمي الذي ولد بعد نهاية الحرب الباردة وكرّس الأحادية الأميركية في الهيمنة على العالم. ويجري السباق والتنافس على وضع قواعد جديدة، لم تتبلور بعد، محدداً مهمة الادارة الأميركية بخوض معركة السباق والتنافس مع روسيا والصين حول الأدوار والأحجام والأوزان في النظام الجديد، قيد الولادة.
ــ على المستوى العالمي حددت قواعد الاشتباك للحروب وفق معادلات رسمتها واشنطن تحت سقف حدود القدرة، وعنوانها في الجبهتين الساخنتين الأساسيتين في أوكرانيا وتايوان، وركنا هذه القواعد هما من جهة، إمداد أوكرانيا وتايوان بالسلاح، وعدم التورط بمواجهة مباشرة وفق خط أحمر هو لا تدخل مباشر إلا ضمن حدود الدفاع عن دول أعضاء في حلف الناتو. والواضح أن روسيا والصين ليستا بوارد فتح حرب مع دول أعضاء في حلف الناتو، وواثقتان من القدرة على احتواء حجم الدعم التسليحيّ الذي تقدّمه واشنطن وحلفاؤها في جبهتي أوكرانيا وتايوان، ما يعني وفق أي قراءة عسكرية عملية، أن مسألة نصر روسيا في أوكرانيا مسألة وقت، وأنه إذا بدأ نزاع عسكري في تايوان، فالنصر فيه للصين مسألة وقت. وهذا يعني عملياً أن وضع الفرضيات العسكرية كمدخل لرسم النظام العالمي الجديد، لا يصلح لتشكيل الجواب الأميركي على سؤال التنافس والسباق مع موسكو وبكين، فما هي البدائل ولو على مستوى التفكير الأميركي على الأقل؟
ــ اذا كان التسليم بالمتغيرات يبدأ بالكلام عن نهاية النظام القديم، وهو ما يصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذاته بنهاية عهد الهيمنة الأميركية، وإذا كان يمر بالتسليم بالحاجة للعمل تحت سقف ضوابط تحول دون توسّع نطاق المواجهة العسكرية وبلوغها نقاطاً خطيرة، خلال المواجهة الدائرة التي يسمّيها بلينكن سباقاً وتنافساً مع روسيا والصين، وما تسميه بكين وموسكو بإرساء قواعد الشراكة الندية في نظام متعدد الأقطاب، تعلن روسيا أنه تحقق، وتقول الصين إنها تساند روسيا في لعب دور القوة العظمى فيه، فإن القواعد التقليدية الباقية للسباق والتنافس، أو المواجهة، لها ميدان واحد هو الميدان الاقتصادي والمالي، وبشكل محدد فعالية نظام العقوبات من جهة، وفعالية نظام مالي يرتكز على الدولار بالتوازي من جهة أخرى، وهو ما أظهرت تجربة فرض العقوبات على روسيا محدودية تأثيره، وبدأت تداعيات الإفراط في الاعتماد عليه في مؤشرين كبيرين يرسمان معادلة السوق العالمية الاقتصادية، الأول هو خطر انفلات السوق المالية العالمية من السطوة الأميركية التي يعبر عنها دور الدولار الأميركي في نسبة التبادلات التجارية، وهو آخذ في التقلص لصالح اعتماد العملات الوطنية لدول ذات أحجام اقتصادية كبرى كالصين والهند، والثاني هو خروج سوق الطاقة عن السيطرة الأميركية، من جهة بسبب حجم المكانة الروسية في هذا السوق، ومن جهة موازية بسبب تمرّد دول فاعلة في أسواق الطاقة كانت تقليدياً تحت السيطرة الأميركية كحال السعودية، عن القواعد التي ترسمها واشنطن، لسوق الطاقة من جهة كما يظهر قرار خفض إنتاج أوبك مليوني برميل يومياً خلافاً للغربة الأميركية، وللعلاقات الدولية السياسية والاقتصادية من جهة موازية، كما يظهر حرص السعودية على علاقات مميزة مع روسيا والصين، وسعيها للانضمام الى مجموعتي شنغهاي وبريكس، وصولاً لاستضافة الرياض ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية مع الصين، فما هو الرهان الأميركي؟
ــ يقول الأميركيون وفقاً لتصريحات مستشار الأمن القومي جايك سوليفان أن واشنطن تراهن على إعادة الاعتبار لمكانتها كدولة عظمى من الباب الاقتصادي، من بوابة التفوق التقني واسترداد الموقع الصناعي الأول، خصوصاً في التقنيات العالية الدقة، من يد الصين، وهذا يحتاج إلى وقت من جهة، وهو عملية تنافسية مع دولة تملك خططاً معاكسة، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالنتيجة، سوى أن ما يجمع عليه الأميركيون والصينيون هو الحاجة لخمس سنوات لرؤية حاصل هذه المعركة. وهي بالمناسبة السنوات المطلوبة لتتمكن أوروبا من إنجاز ما تسميه التحرر من الاعتماد على الموارد الروسية للطاقة، والسؤال الذي لا يستطيع الأميركيون من الإقرار بصعوبة الإجابة عنه هو هل تحتمل النزاعات الإقليمية والدولية الساخنة انتظار هذا الوقت؟
ــ الجواب الأميركي يقوم على محاولة إيجاد فسحة تكتيكية تغطي هذه المرحلة الانتقالية، تتضمن تبريداً للنزاعات الساخنة بتنازلات وتراجعات وإعادة تموضع أميركية. وتحت هذا السقف تندرج دعوات أعضاء الكونغرس للتفاوض مع روسيا حول هدنة طويلة في أوكرانيا ودعوات مشابهة لتعديل التوجهات الخاصة بتايوان نحو فتح قنوات التفاوض وفق ثنائية صين واحدة واعتماد الطرق السلمية، وثمة من يقول إن تقبل الخسائر التي تفرضها مساعي الهدنة الطويلة أقل بكثير من الخسائر التي تترتب على مواصلة المواجهة بسقوف مرتفعة، ولن يتاح فهم ما جرى في مفاوضات الغاز والنفط في الحدود البحرية الجنوبية للبنان، والتراجع الذي ظهر واضحاً في ادارة واشنطن، ومن خلفها «إسرائيل»، لملف التفاوض وصولاً للتسليم بما طلبه لبنان، تفادياً لمخاطر تهديد حزب الله بالحرب، إلا بصفته الترجمة العملية لهذا التسليم الأميركي بالمتغيرات، وهو لذلك لن يبقى يتيماً، وسوف تليه ترجمات لا تقلّ أهمية، في اليمن وغزة وسورية، وصولاً الى الملف النووي الإيراني، والأيام شواهد!