شعلة المقاومة
} سعادة مصطفى أرشيد*
قرابة ثلاثة عقود مرّت على توقيع اتفاق أوسلو 1993 الذي كانت وظيفته تأمين البقاء السياسي لقيادة منظمة التحرير ولو على حساب المصالح الوطنية والقومية العليا موهمين الجمهور بأنّ هذا الاتفاق انتصار مؤزر للدبلوماسية الفلسطينية وإنجاز من إنجازاتها، وقد أسموه بـ «سلام الشجعان» الذي تنازلت به قيادة منظمة التحرير عن 78%من أراضي فلسطين الانتدابية وأبقت 22% للتفاوض، وقالوا للناس إنّ هذا الحكم الذاتي المحدود هو محطة قصيرة للوصول للدولة الفلسطينية على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، فيما منح «الإسرائيلي» لشركائه في «سلام الشجعان» بعض مظاهر الدولة دون جوهرها كالحقّ في رفع العلم أو إصدار طوابع بريدية وما إلى ذلك…
تشكلت السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاق واعتمدت في مرحلتها الأولى سياسة الارتجال والفوضى فلم تقم مؤسسات ولا رسمت برامج عمل ودبّت فيها أمراض سوء الإدارة والفساد وهي ما زالت قيد التشكل، فيما كانت أموال المانحين تتدفق بسخاء ولكنها ذهبت هباء منثوراً، أما العهد الثاني للسلطة فقد اتسم بالجمود والانتظار إذ وضع نفسه طوعاً في زاوية خيار التفاوض كخيار وحيد، منتظراً معجزات أصبحت مستحيلة في هذا الزمن أو مصادفات نادرة الحدوث، وأخذت بالعمل بنظام المياومة تقطيعاً للوقت، وذهبت بخطوات أوسع نحو بناء فلسطيني جديد، على نمط المواطن المستقرّ الذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي دولا بوسييه، مواطن لا ينتمي للوطن وإنما للوظيفة ولا يهمّه الشأن العام طالما امتلك قوت يومه، الشرخ الواسع بين قيادة السلطة والفلسطيني أثبت تهافت نظرية الفلسطيني الجديد التي أكدت أحداث الأيام الأخيرة على طول الضفة الغربية وعرضها فشلها، والنتيجة أنّ شرخاً واسعاً قد أصبح يفصل بين السلطة الفلسطينية وإلى جانبها ما تبقى من مفرزات اتفاق أوسلو وبين الفلسطيني، لدرجة أنّ من يحكمون قد اصبحوا يعيشون بمعزل عن شعبهم! إذ انهم لا يرون أنهم بحاجة لأخذ مشروعيتهم منه وينوبون عنه وإنما مشروعيتهم هي من التزامات الاتفاق البائسة وأنها من يضمن لهم البقاء.
آخر تعبيرات حالة الفشل والضياع في الأيام القليلة الماضية التي عبّرت عنها السلطة الفلسطينية جاءت اثر انتخابات نقابة الأطباء والتي فازت بها قائمة مستقلة وعلى غير ما تريد السلطة، فكان ردّ السلطة بإصدار مرسوم بحلّ النقابة وإنشاء نقابة جديده بقيادة الذين خسروا الانتخابات، وفي مجال آخر صدر مرسوم بإنشاء مجلس أعلى للقضاء برئاسة الرئيس أبو مازن وعضوية رئيس مجلس القضاء العالي وقاضي القضاة والنائب العام ووزير العدل وآخرين، وبما أنّ البرلمان معطل تصبح السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الرئيس.
على ضفة المعادلة المقابلة حيث الشعب كان التعبير عن انعدام الثقة واتساع الفجوة قد جاء على شكل اجتراح من ولدوا بعد اتفاق أوسلو وترعرعوا في أجواء نظرية الفلسطيني الجديد أساليب مقاومة جديدة أطاحت بتلك النظريات.
مارس الاحتلال مجموعة من السياسات للتصدي للمقاومة بشكلها النوعي الجديد، منها الاعتقالات والاقتحامات الليلية وصولاً إلى الاغتيال بأساليب جديده منها اللجوء إلى المُسيّرات والزجّ بأعداد كبيرة من الجنود بين الضفة الغربية ومحيط غزة، وحسب الأخبار المنشورة في الصحافة العبرية فإنّ نصف الجيش أصبح يعمل كقوات مكافحة شغب، ومن السياسات التي لجأ اليها معاقبة ذوي المقاومين والبلدات التي يتواجدون فيها في محاولة لضرب البيئة الحاضنة لهم، فكان الردّ بداية من مخيم جنين وذلك بإعلان قيادة وطنية موحدة تنظم الشؤون الحياتية، وهي محاولة لتتوافق المقاومة مع الحياة المدنية قدر الإمكان…
من جانب آخر مارس سياسة السلام الاقتصادي بأدوات العصا والجزرة وذلك بمنح تسهيلات واسعة للمناطق التي لم تشارك في المقاومة كجنوب الضفة وتحديداً مدينة الخليل ولكن ما هي إلا أيام وإذا بالخليل تلتحق وتوقع خسائر مهمة في مستوطنة كريات أربع.
ختاماً ولعدم تحميل هذه الظاهرة فوق ما تحتمل، فقد حققت ولا تزال تحقق مجموعة من النقاط المهمة، فهي تؤكد على أنّ جذوة المقاومة لا تنطفئ برغم سياسات بناء الفلسطيني الجديد والمواطن المستقرّ الخالي من الهموم العامة لصالح انكفائه على همومه الخاصة، وأنّ مشروع أوسلو ومفرزاته مهما تحصّلت عليه من دعم فما هي إلا أبراج كرتونية لا تصمد أمام الإرادة المقاومة.
لدى المقاومة قلب شجاع ولكنه يحتاج إلى عقل سياسي.
*سياسي فلسطيني مقيم بالكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة