الاعتكاف القضائي وحقوق المُتقاضين… مقاربة قانونية
إقرار مشروع قانون استقلالية السلطة القضائية فوراً وضمان الاستقلال المادي للمرفق القضائي يخرجه من التجاذبات السياسية في ما يخص حقوقه المادية وموازنته السنوية
} المحامي سلمان بركات
مقدمة:
يشهد لبنان منذ عدة أشهر اعتكافاً غير مسبوق من قبل السلطة القضائية، بدأ في التوقف عن النظر في الدعاوى على اختلاف أنواعها، باستثناء دعاوى الموقوفين، والدعاوى المُستعجلة، ثم تدرّج بعد ذلك، وصولاً إلى اعتكاف عدد كبير من القضاة عن النظر حتى في الدعاوى المذكورة، ما أدّى إلى شلل العمل القضائي وتوقفه. وكان الدافع إلى ذلك تحسين الأوضاع المادية للقضاة، وتحصين استقلالية السلطة القضائية. ومع التأكيد على أحقية هذه المطالب، فإنّ اعتكاف القضاة عن العمل، لا يمكن التعامل معه كباقي القطاعات التي تُنفذ إضراباً عاماً مفتوحاً. فللقضاة خصوصية وحيثية لصيقة بحقوق الإنسان. لذلك، نظم المُشرع العمل القضائي في نصوص وتشريعات تحكمه وترعاه.
انطلاقاً من أهمية هذا الموضوع، وآثاره السلبية على حقوق المواطنين، وعلى المجتمع بأسره، ولأنّ المحامي معني بإزالة العراقيل والعقبات التي تعترض حقوق موكليه بشكل خاص، وحقوق الناس والمتقاضين بشكل عام، وهذا من واجباته التي تفرضها نصوص قانون تنظيم مهنة المحاماة. وجدت من المفيد مقاربة هذه المعضلة، ومدى موافقتها للقانون، عارضاً ذلك في عدة مطالب، هي:
1. التحركات المطلبية للقضاة في لبنان تاريخياً.
2. تعريف ومعنى الاعتكاف القضائي.
3. مدى موافقة الاعتكاف القضائي للنصوص القانونية ذات الصلة.
4. النتائج والمخاطر التي تنتج عن الاعتكاف القضائي.
المطلب الأول: التحركات المطلبية للقضاة في لبنان تاريخياً:
شهد السلك القضائي في لبنان تاريخياً تحركات مطلبية عدة، كان أهمّها تلك التي حصلت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حيث بدأها خريجو معهد الدروس القضائية آنذاك، وقد نجحوا في جولاتهم على قصور العدل في جمع توقيع 172 قاضياً من القضاة العدليين على عريضة مطلبية. مع الإشارة إلى أنّ عدد القضاة كان يبلغ يومها 270 قاضياً، ومن القضاة الذين وقعوا على تلك العريضة الرئيس غبريال المعوشي الذي كان يومها رئيساً لمحكمة جنايات بيروت، والرئيس حسن قواس وكان رئيس محكمة جنايات القتل في لبنان، والقاضي منيف حمدان الذي كان محامياً عاماً في النيابة العامة في بيروت. وقد شكل هؤلاء نواة اللجنة القضائية التي قدمت دراسة وعريضة لوزير العدل يوسف جبران بتاريخ 27/12/1979، كما قدمت نسخة منها إلى مجلس القضاء الأعلى.
ثم تابعت هذه اللجنة تحركاتها ودعت القضاة إلى جمعية عمومية في 27/3/1982 وقدمت توصية بالدعوة إلى إستقالة القضاة وتوقفهم عن العمل فوراً إذا لم تتحقق مطالبهم. وظهر تباين داخل الجمعية العمومية بين خيارين «الإضراب أو تقديم استقالات جماعية».
وقد نشأ الخلاف والتباين انطلاقاً من مدى مشروعية الإضراب. وفي جمعية عمومية أخرى انعقدت بتاريخ 24/4/1982 قرّر القضاة التوقف عن العمل حتى تحقيق مطالبهم، ما أظهر شرخاً بين القضاة ومجلس القضاء الأعلى، الأمر الذي دفع الأخير إلى إصدار بيان في الثاني من أيار من نفس السنة تبنّى فيه غالبية المطالب، وضمّنه تحذيراً شديد اللهجة داعياً القضاة المتوقفين عن العمل إلى استئناف أعمالهم فوراً، «واعتبار كلّ إعلان أو بيان أو تصريح يصدر عن أحد القضاة إخلالاً جوهرياً بالخلقية القضائية يستوجب تطبيق القانون رقم 49/65 تاريخ 6/9/1965، وهو ما يُعرف بقانون التطهير».
وأدى الجدل الحاصل حول ذلك إلى تعليق الإضراب، وعلق يومها وزير العدل يوسف جبران على هذه الخطوة أنها انسجام مع مبدأ «الإنضباطية القضائية».
ثم حصل الإجتياح «الإسرائيلي» للبنان في الخامس من شهر حزيران 1982، فعلق مجلس القضاء الأعلى أيّ تحرك تغليباً منه للمصلحة العامة على المصالح الخاصة.
أدّت التحركات المطلبية المُشار إليها إلى تحقيق مطلبين مهمين، الأول كان إنشاء صندوق تعاضد القضاة بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 52 تاريخ 29/7/1983، والذي شكل أماناً اجتماعياً للقضاة في ما بعد. والمطلب الثاني تمثل بتعديل النصوص القانونية لأجل تدعيم سلطة القضاء، وطالت هذه التعديلات المادة 44 من قانون تنظيم القضاء العدلي، التي أوجبت بعد التعديل مرور أيّ مطلب جماعي أو وظيفي للقضاة بمجلس القضاء الأعلى ومراعاة المرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959 (نظام الموظفين)، مع الإشارة إلى أنّ المرسوم المذكور يحظر الإضراب.
في عام 1997 حصلت تحركات مطلبية أخرى، رفعت المطالب بشأنها إلى مجلس القضاء الأعلى وفقاً لنص المادة 44 السالفة الذكر.
في عام 1998 استطاع القضاة الحصول على مطالب مضاعفة رواتبهم، ثم حصل عام 1999 تحرك احتجاجي من بعض القضاة اعتراضاً على إستدعائهم إلى خدمة العلم.
وتوالت التحركات بعد ذلك، فكان اعتكاف القضاة في شهر أيار عام 2014 رداً على قرار تقصير العطلة القضائية من شهرين إلى شهر واحد. ثم اعتكاف شهر آذار عام 2017 اعتراضاً على مشروع القانون التعديلي لسلسلة الرتب والرواتب وكيفية تعديلها، واعتكاف الصيف من العام ذاته وللأسباب عينها. وتحرك في شهر آذار عام 2018 حيث طلبت مجموعة من القضاة عبر وسائل التواصل إعفائها من مهامها في لجان القيد المشرفة على الانتخابات النيابية، فأصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً ينفي فيه أيّ اعتكاف للقضاة.
وفي العام المذكور، تمّ إنشاء جمعية نادي القضاة حيث وقع على نظام تأسيسها 32 قاضياً وأودع طلب التأسيس لدى وزارة الداخلية في 30/4/2018.
ثم توالت التحركات حتى وصلنا إلى الاعتكاف القضائي الراهن، الذي يُعتبر أطول اعتكاف في تاريخ القضاء اللبناني، وأشدّه تأثيراً على حقوق الناس ومصالحهم، ومصلحة المجتمع.
بعد هذا العرض التاريخي، ومقاربة موضوع الاعتكاف من الناحية القانونية، لا بدّ من الوقوف على تعريفه ومعناه.
المطلب الثاني: تعريف ومعنى الاعتكاف القضائي
تعريف الاعتكاف في اللغة:
اعتكاف: إسم، مصدره اعتكف، إستمر اعتكافه في البيت زمناً طويلاً، لزومه وإقامته فيه.
الاعتكاف على تحصيل العلم: التفرّغ له وعدم الإنصراف عنه.
الاعتكاف: الإقامة في المسجد على نية العبادة.
وعرف أيضاً بأنه الإحتباس والإقامة على الشيء بالمكان.
ــ في الإصطلاح الفقهي والشرعي:
هو المكوث في المسجد بقصد التعبّد لله وحده، وهو مشروع قرآناً وسنة وإجماعاً.
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون».
ــ أما في المصطلح القانوني:
فلم نجد أيّ تعريف للاعتكاف، ولكن انطلاقاً من التعريف اللغوي والإصطلاحي، نرى أنّ الاعتكاف القضائي يمكن تعريفه بأنه المكوث والإقامة الدائمة في المحاكم دون العمل والإستمرار عليه.
ويصحّ توصيف الاعتكاف القضائي بأنه الإمتناع عن العمل لأيّ سبب من الأسباب، (أسباب الاعتكاف القضائي الراهن تحسين أوضاع القضاة مادياً وإستقلالية السلطة القضائية).
والاعتكاف يساوي الإستنكاف في النتيجة، إذ كلاهما يؤدي إلى الإمتناع عن النظر بالدعاوى والإمتناع عن إحقاق الحق.
وإذا كانت النصوص القانونية لم تضع تعريفاً للاعتكاف، لكنها عرفت الإستنكاف عن إحقاق الحق، حيث نصت المادة الرابعة من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنه: «لا يجوز للقاضي تحت طائلة إعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق:
* أن يمتنع عن الحكم بحجة غموض النص أو إنتفائه.
* أن يتأخر بغير سبب عن إصدار الحكم».
وينهض من هذا النص أنّ الإستنكاف عن إحقاق الحق هو كلّ إمتناع أو تأخير في إصدار الحكم يقوم به القاضي بغير سبب.
ويلتقي الاعتكاف القضائي في نتائجه مع الإضراب أيضاً، فكلاهما يوقف العمل ويجمد الإدارة ومصالح الناس والمجتمع، ويعرف الإضراب بأنه «إتفاق بعض العمال على الإمتناع عن العمل، مدة من الزمن دون أن تنصرف نياتهم إلى التخلي عن وظائفهم نهائياً، بقصد إظهار استيائهم من أمر من الأمور، أو الوصول إلى تحقيق بعض المطالب، لا سيما المتعلقة بالعمل، كرفع الأجور».
وبذلك نجد أنّ الاعتكاف القضائي الراهن في لبنان يتوافق مع تعريف الإستنكاف عن إحقاق الحق من جهة وفقاً لتعريف المادة/4/أ.م.م. السالفة الذكر. ويتطابق أيضاً مع مفهوم وتعريف الإضراب من حيث الآليات والأهداف والنتائج.
وعليه، يضحى الاعتكاف موضوع الدراسة إستنكافاً عن إحقاق الحق، وإضراباً عن العمل القضائي، مهما أعطي من توصيفات، وأطلقت عليه التسميات.
بعد هذه المقاربة لتعريف الاعتكاف القضائي، لا بدّ من الخوض في بحث مدى توافق الاعتكاف المذكور مع النصوص القانونية ذات الصلة.
المطلب الثالث: مدى موافقة الاعتكاف القضائي للنصوص القانونية ذات الصلة
كما أسلفنا يقوم القضاة منذ مدة بالاعتكاف عن العمل في المحاكم، مطالبين بتحقيق مطالب لهم، صار بيانها أعلاه. ويحاول الكثير منهم ويصرّ على إضفاء المشروعية على هذا الاعتكاف، دون تقديم الأدلة التي تؤكد مشروعيته. مع أحقية هذه المطالب، وأهمية تحقيقها في توفير الأمان الاجتماعي والاستقرار النفسي والصفاء الذهني للقاضي أثناء عمله القضائي.
لا مناص من التساؤل عما إذا كان الاعتكاف هو السبيل الأنجع لتحقيق المطالب، وعما إذا كان يجوز اللجوء إليه قانوناً في ظلّ النصوص القانونية التي ترعى عمل القضاء.
1 ــ الاعتكاف ليس السبيل الأنجع لتحقيق المطالب:
لا يشكل الاعتكاف السبيل الوحيد أو الأنجع لتحقيق مطالب القضاة، لا سيما أنّ مضاره أكثر من فوائده على الأفراد والمجتمع، وعلى القضاة أنفسهم، كون الاعتكاف يتسبّب بتوجيه الاتهام لهم بتفضيل المصالح الذاتية الخاصة على الصالح العام. ناهيك عن أنه يمسّ بهيبة القضاة والسلطة القضائية.
وقد عبّر العديد من القضاة، منهم ما زال يمارس مهامه القضائية، ومنهم من تقاعد، بأنه لا يجوز اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب، فبرأي القاضي الدكتور فوزي أدهم (متقاعد، قاضي شرف) «أن ما يحصل هو أكثر بكثير من إضراب ويشكل سابقة لم يعرفها لبنان ولا العالم، وتحصل للمرة الأولى، ولا يمكن للقاضي أن يعلن إضرابه»، ويضيف «لو كنت مستمراً في السلك القضائي لم أكن لأُشارك بالإضراب».
2 ــ مدى جواز اللجوء إلى الاعتكاف في ظلّ النصوص القانونية التي ترعى وتنظم عمل القاضي:
من المعلوم أنّ ما يرعى عمل القاضي العدلي هو قانون تنظيم القضاء العدلي، والقوانين ذات الصلة.
تنص المادة /44/ من قانون تنظيم القضاء العدلي على ما يلي:
«القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقاً لأحكام هذا القانون مع مراعاة الأحكام الواردة في المرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959 (نظام الموظفين). كل مطلب جماعي وظيفي يجب أن يمر عبر مجلس القضاء الأعلى».
يتبيّن من هذا النص أنه تضمّن أمران أساسيان في ما يخص المطالب الجماعية الوظيفية للقضاة.
الأمر الأول، مراعاة أحكام نظام الموظفين. والأمر الثاني، وجوب مرور المطالب عبر مجلس القضاء الأعلى.
وبالعودة إلى نظام الموظفين، من الواضح أنه يمنع الإضراب، وهذا ما تنص عليه المادة / 15 / من النظام المذكور. وبالتالي لا يصح اللجوء إلى الإضراب. والاعتكاف هو إضراب وفق آلياته وأهدافه ونتائجه كما أسلفنا.
أضف إلى ذلك، إنّ اللجوء إلى الاعتكاف الراهن لم يمرّ بمجلس القضاء الأعلى، بل شدّد المجلس المذكور على وجوب العودة عنه أكثر من مرة، وفقاً لما ورد في وسائل الإعلام، لكن لم يحصل ذلك، وهذا يؤكد مخالفته لنص المادة /44/ من قانون تنظيم القضاء العدلي.
هذا إضافة إلى مخالفة الاعتكاف لمبدأ استمرارية المرفق العام، وعدم تعطيله، ومخالفته لمبدأ وجوب عدم الاستنكاف عن إحقاق الحق المنصوص عليه في المادة /4/ من قانون أصول المحاكمات المدنية التي صار ذكرها سابقاً.
بعد كلّ ما تقدّم، ننتقل إلى النتائج والمخاطر التي تنتج عن الاعتكاف القضائي.
المطلب الرابع ــ نتائج ومخاطر الاعتكاف القضائي:
يلعب القضاء دوراً أساسياً في المجتمع، فهو يحافظ على النظام الاجتماعي، ووظفيته الأساسية حلّ النزاعات، من خلال تطبيق المعايير والمبادئ والنصوص القانونية المعمول بها.
والسلطة القضائية من أهمّ سلطات الدولة وأجهزتها، لأنها تعمل على حمايتها من التجاوزات المحتملة التي قد ترتكب من السلطتين التشريعية والتنفيذية وأجهزتهما.
ومن أهمّ وظائف السلطة القضائية توفير العدالة للناس وحماية حقوقهم وتوفير الأمن الاجتماعي، خشية من الاضطراب وعدم الاستقرار، ولجوء الأفراد إلى أساليب القوة الذاتية التي كانت سائدة في العصور القديمة للمجتمع الإنساني. وقد بدأت هذه الظواهر تتفشى داخل المجتمع اللبناني، من الأحداث الأمنية وجرائم السرقة والقتل، ودخول المصارف واسترداد الودائع بالقوة.
ولو كانت المحاكم تمارس عملها ودورها لما وصلنا إلى ذلك.
وللاعتكاف القضائي نتائج وآثار ومخاطر على حقوق الأفراد من جهة، وحقوق المجتمع من جهة أخرى، فما هي هذه الآثار؟
1 ــ آثار الاعتكاف ومخاطره على حقوق الأفراد.
من هذه الآثار:
أ ــ الاعتكاف يحرم الأفراد من حقهم الطبيعي في اللجوء إلى القضاء وهذا يُخالف المادة /7/أ.م.م. التي تُعطي كلّ صاحب حقّ مراجعة القضاء، كما يخالف نص المادة /10/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكفل الحق عينه.
ب ــ ويؤدي الاعتكاف إلى تأخير انتفاع صاحب الحق بحقه، ما يلحق ضرراً أكيداً بصاحب الحق، ومن المعلوم أنّ «العدالة البطيئة»، تقارب في مفاعيلها «اللاعدالة»، كما أنّ الاعتكاف شكل من أشكال الاستنكاف عن إحقاق الحق، وفقاً لما أسلفنا.
ووفقاً لما هو مستقرّ عليه نصاً واجتهاداً «يأخذ الإستنكاف عن إحقاق الحق، عدة أشكال، من أوضحها التراخي المتعمّد عن النظر في القضية المعروضة، وكذلك تأخير الحكم إلى حين تغير الظروف، وتبدل الحيثيات، بما يصبح معه الحق مهدوراً وتضحي معه المنازعات القضائية من غير طائل».
ج ــ ويشكل الاعتكاف القضائي مساساً بحقوق المتهم في محاكمة عادلة في القضايا الجزائية، وبالضمانات التي توفر ذلك، لا سيما في ما يتعلق بالموقوفين. ومن هذه الحقوق والضمانات، الحقّ في عدم الاحتجاز تعسّفاً، وهو ما كفلته المادة التاسعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة التاسعة فقرة (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
ويمسّ الاعتكاف أيضاً بقرينة البراءة المنصوص عليها في المادة/11/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة /14/ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويمسّ الحق بإخلاء سبيل الموقوف الممنوح له بموجب نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية لا سيما المواد 107 و 108 و 112 و 113 و 114 منه. مما يشكل انتهاكاً لحق الإنسان في الحرية أيضاً المكفول بالتشريعات الدولية والداخلية.
هذه بعض الآثار والمخاطر على الأفراد، التي تنتج عن الاعتكاف القضائي، فماذا عن آثاره ومخاطره على المجتمع.
2 ــ آثار الاعتكاف ومخاطره على المجتمع
ينتج عن الاعتكاف القضائي مخاطر عديدة على المجتمع، نذكر منها:
أ ــ وفقاً لما أسلفنا، يلعب القضاء الدور الأساس في حماية المجتمع، وحفظ الحقوق. وتوقف القضاء عن العمل، يؤدي إلى تعميم الفوضى المجتمعية، وانهيار المؤسسات، وهدم كيان الدولة، فتنتشر الجريمة وتعم شريعة الغاب.
ب ــ يُساعد الاعتكاف على ازدياد الازمة الإقتصادية الداخلية، فعدم الحكم أو البت بالدعاوى العالقة أمام المحاكم والتي تتضمّن حقوقاً مالية منقولة أو غير منقولة، يؤدي إلى تجميد هذه الحقوق والأموال، ويزيد من جمود الدورة الإقتصادية في البلاد.
ج ــ كما يؤدّي إلى هروب ما تبقى من رؤوس أموال في الوطن إلى الخارج، لأن القضاء بحسن إدارته وعمله يشكل الضمانة للإستثمار في الداخل.
د ــ ويؤثر الاعتكاف على القضاء نفسه، ومن آثار ذلك :
ــ يؤدي إلى اهتزاز صورته، وهيبته، فيصوّره وكأنه يراعي مصالحه الخاصة على المصالح العامة، في حين أنّ هيبة القضاء أساس عمله.
ــ الانقسام الحاصل داخل الجسم القضائي، في ما يتعلق بالاعتكاف، بغضّ النظر عن النسب المتفاوتة بين من هم مع الاعتكاف ومن هم يرفضونه بشكله الراهن، يساعد على إهتزاز الهيبة القضائية، ويشجع على الخروج عن قرار السلطة القضائية وإدارتها، الأمر الذي يساهم في إضعاف السلطة القضائية، في الوقت الذي يُعمل فيه على تحقيق إستقلاليتها بالكامل.
ــ يراكم الاعتكاف الملفات داخل المحاكم، بحيث يجد القضاة بعد رجوعهم إلى العمل صعوبة في متابعة إجراء المحاكمات، وإرهاقاً لهم في العمل، وقد يؤدي ذلك إلى التسرّع في البت بالملفات، وإصدار الأحكام. وقد يكون ذلك على حساب حسن الإلتزام بالإجراءات القضائية، ما يؤثر سلباً في الحقوق.
هـ ــ وللاعتكاف تأثير سلبي وحتمي على عمل المحامين. ونعرض من ذلك التالي:
ــ المهنة الوحيدة التي يمارسها المحامي هي مهنة المحاماة، فمحظور عليه وفق قانون تنظيم المهنة ممارسة أيّ عمل يتناقض معها، وهذا يعني أنّ المحامي يُنتج إذا عَمل، وفي ظلّ الاعتكاف القضائي الراهن، توقف عمل المحامي، وانعدم دخله، وتحوّلت حياته ومعيشة أسرته إلى أزمات متفاقمة.
ــ واهتزاز الثقة بالقضاء وهيبته، يؤدّي حتماً إلى ابتعاد الناس عن اللجوء إلى القضاء، ويبعدهم عن المحامين، حيث لم يعد لهم حاجة في ذلك.
ــ إنّ تراكم الملفات أمام المحاكم بسبب الاعتكاف، سوف يرهق المحامي في عمله، ومتابعته لملفاته، وسوف يعاني في هذا السياق، ما يعاني منه القاضي تماماً.
ونظراً لمخاطر الاعتكاف القضائي على المجتمع والأفراد، وعلى مهنة المحاماة والجسم القضائي، دعا نقيب المحامين في بيروت النقيب الأستاذ ناضر كسبار ومعه مجلس النقابة، القضاة إلى العودة عن اعتكافهم، مع التأكيد على أحقية مطالبهم.
وكذلك فعلت نقيبة المحامين في الشمال النقيبة الأستاذة ماري تراز القوال.
واتصلا برئيس مجلس القضاء الأعلى لإبلاغه بمبادرتهما لحلّ هذه المعضلة.
بعد هذه المقاربة القانونية للاعتكاف القضائي، هل يمكن معالجتها؟ وما هي وسائل ذلك؟ ولهذه الغاية نعرض بعض المقترحات.
مقترحات
ــ ضرورة الإلتزام بقرارات السلطة القضائية وإدارتها، لأنّ خلاف ذلك يؤدّي إلى تشرذم وتشتت الجهود، وتصوير القضاء مقسماً غير موحد، وهذا لا يؤدّي إلى النتائج المرجوة، كما لا يجوز الخروج على إدارة المرفق العام القضائي.
ــ تحقيق المطالب القضائية من قبل السلطة، وأهمها زيادة رواتب القضاة بما يوفر لهم العيش اللائق والكريم، وتعزيز الضمانات الإجتماعية لهم ولأسرهم. وهذا واجب على السلطة، وحق للقاضي، إذ لا يمكن أن يحقق القاضي رسالته في تحقيق العدالة، دون استقرار اجتماعي، وصفاء ذهني.
ــ إقرار مشروع قانون إستقلالية السلطة القضائية فوراً، دون أي تباطؤ، وضمان الاستقلال المادي للمرفق القضائي، يخرجه من التجاذبات السياسية في ما يخص حقوقه المادية وموازنته السنوية.
ــ العمل فوراً على إنهاء الاعتكاف القضائي، والرجوع عنه، بشكل يضمن الحفاظ على هيبة القضاء وصورته أمام الناس، علماً أنّ المتضرّر الأكبر من الاعتكاف هو المواطن لا السلطة، ولا يجوز التمادي في الإضرار بالناس ومصالحهم.
ــ تشكيل لجنة من كلّ من تربطه علاقة مباشرة بالمرفق القضائي (مجلس القضاء الأعلى، قضاة الشورى، القضاء الشرعي، ديوان المحاسبة، نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس) للعمل على وضع ورقة مطالب موحدة، ترفعها إلى الحكومة، وتعمل على إقرارها بموجب تشريعات واضحة.
ــ وفي الموازاة تفعيل دور التفتيش القضائي لمنع أيّ تباطؤ في العمل القضائي، وأية ممارسة تضرّ بسمعة القضاء.
هذه بعض مقترحات، وقد يكون غيرها الكثير، غايتنا منها الإضاءة على بعض وسائل الحلول، مع علمنا أن البعض قد يرى غيرها أيضاً، وما مقصدنا من ذلك سوى الصالح العام.