أخيرة

نافذة ضوء

الشعر السامي منارة
في المفهوم القومي الاجتماعي

‭}‬ يوسف المسمار*
الشعر أسلوب أدبي كما النثر أسلوب، والأسلوب يرتقي أو ينحط بحسب المستوى الفكري للشاعر والغاية التي يهدف اليها.
فإذا كان الشاعر راقياً في الفكر والغاية كان شعره شعر تنوير وهدى، واذا كان الشاعر متخلفاً وغايته حقيرة كان شعره شعر تخلف يُضل ولا يهدي.
ولذلك لا تهم معرفة قائله بل يهم نوعه حتى ولو قيل عن لسان نبي أو أمام أو فيلسوف، لأن للسموّ أنبياءٌ وأئمةٌ وفلاسفة، وللتخلف أيضاً مشعوذون ومثرثرون ومضللون. والفرق كبيرٌ بين شِعرٍ يهدي ويرفع الناس الى العلاء وشعرٍ يهبط بهم الى أسفل سافلين.
فشعر السموّ يهدي الى الأفضل، وشعر التخلف يُضّل ويقود الى الأرذل. وهذا ما يساعدنا على تفسير الآية القرآنية: «الشعراءُ يتبعهم الغاوون، في كل وادٍ يهيمون». والمقصودون في الآية القرآنية هم شعراء التضليل، ولا يجوز عقلاً وأخلاقاً أن يكونوا شعراء السموّ بحسب الحديث الشريف «وما بعثتُ إلا لأتمم مكارم الأخلاق».
ولو كان النبي ضد الشعر السامي لما فسح المجال للامام علي بن أبي طالب أن يقول شعراً ويكتب شعراً، ويكون شاعراً الى جانب كونه ناثراً.
وحين نتمعن في بعض آيات القرآن الكريم نجد أن فيها من الشعر أحكمه وأبلغه وأرقاه، حتى أن الله أوحى أو ألهم بالشعر كما يبدو للعقل المتنور في هذه الآيات: «ولا يكلّف الله نفساً إلاَّ وسعها …
ومن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً… لا إكراه في الدين… قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن شاء شكر ومن شاء كفر…» وغيرها من الآيات الحكيمة. وحتى في بعض الأحاديث الشريفة نجد فيها شعراً سامياً «خيرُ الناس أنفعهم للناس… ومُنع العلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحلم، والمجنون حتى يعقل…».
وتتوضح صورة الشعر السامي والشاعر الراقي في قول أنطون سعاده: «إن الشاعر، في عرفي، هو الذي يُعنى بابراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة. واني أرى أن من أهم خصائص الشعر: إبراز الشعور والعاطفة والإحساس في كل فكر أو في كل قضية تشمل عناصر النفس، وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صوراً مجازية أو خيالية عناصرها القوة والجمال والسموّ مع عدم مفارقة الحقيقة والغرض الإنساني. ليس الشعر، في عرفي، مجرد شعور. إني أرى الشعر، أو على الأقل، الشعر المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه، لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالاً وثيقاً في المركّب العجيب الذي نسميه النفس».
وهذا هو المفهوم القومي الاجتماعي للشعر والأدب. والشاعر في نظري ليس شاعراً كيفما كان، بل إنه الشعر السامي، والشاعر العبقريّ الموهوب هو الذي يرتفع بشعره الى السماء وتبقى أقدامه راسخة في الأرض. فإذا اقتلعت أقدامه من الأرض بطل أن يصل الى السماء لأن لا وجود لسماء بلا أرض. والأرض التي لا سماء لها ليست أرضاً. السماء ضرورة لوجود الأرض والأرض ضرورة لوجود السماء. ومن يفقد الأرض لا سماء له. ومن لا سماء له لا أرض له. وهذا ما يساعدنا على فهم عبارة أنطون سعاده المشهورة «اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض»، كما يساعدنا على فهم حقيقة الرسالتين الإسلاميتين المسيحية والمحمدية في جعلهما الأرض مختبراً للناس يؤهلهم للصعود الى السماء أو الإخفاق. فمن نجح في الاختبار في هذه الدنيا نال إجازة الصعود الى عالم العلاء. ومن لم ينجح خسر الأرض والسماء معاً.
الشعر السامي لا يأتي به مجنون بل يأتي به عاقل. والفرق بين العقل والجنون هو فرق بين الوضوح والغموض، أو الثراء والفقر. وقد عبّر الإمام علي عن هذه الحقيقة بتعبيره الموجز العقلي الفكري الشعري النثري الحكيم ابلغ تعبير حين قال: «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل». أليس هذا القول شعراً حكيماً الى جانب كونه نثراً.
إن أمتنا لا ينقذها شعراء فقدان الفكر والشعور بل شعراء العقل والاتزان، ولا يرفع من قيمتها في الصراع الحضاري الإنساني شعر شعوذة وأوهام بل شعر عقل وهداية «يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة». وهذا هو الشعر الهادي للإنسان والخالد مدى التاريخ.
فالمتنبي مثلاً لا أرى أية قيمة لشعر فرديته وأنانيته حيث يقول:
أي محـلٍ أرتـقي أي عـظيـمٍ أتقي
وكـلُّ ما قـد خـلـق الله وما لـم يخلـق
محتقرٌ في همّتي كشعرةٍ في مفرقي
هذا هو شعر الغاوين الذين في كل وادٍ يهيمون. ولكن الشعر الذي رفع من قيمة المتنبي هو شعر الوعي والفكر والشعور الإنساني السامي الذي نراه في هذين البيتين:
إذا غامرتَ في شـرفٍ مـرومِ
فـلا تـقـنع بمـا دون النـجـوم
فطعـمُ المـوت في أمـرٍ حقيـرٍ
كطعـمِ المـوت في أمر عظيـم ِ
لقد غلب الطابع الفردي الأناني على شعر الغطرسة، وأغلب شعراء الغطرسة شعراء فرديون أنانيون، ولا يزال الشعر الفردي الأناني يجرجر الشعراء الغاوين حتى يومنا هذا.
فإذا كان تخصص الطالب في الأدب يحتاج الى سنين ليتخرج في اختصاصه ويُجاز، فكم بالحري يلزم للفرد حتي يعي رسالة التعاليم السامية التي تُخرّج الفرد الإنساني برتبة حكيم تتلمذ على دروس الخالق الطبيعية التي استوعبها بالعقل المنفتح على الحياة والكون والفنون؟
إن التعاليم التي لا ترفع من شأن الحياة وتساعد على النهوض بالحياة وتشريف الحياة لا يمكن أن تكون منهلاً لشعر راقٍ وسامٍ ولا قاعدة انطلاق لشعراء عباقرة يسيرون في النور ولا يشردون في متاهات الغواية والضلال.
إن رسالة الشاعر العبقري هي أن يكون شعره منارة تهدي التائهين الى طريق حضارة الحق والعدل، وليس يافطة تضليل تقود الى سراديب ظلمة الباطل والظلم وكهوف التعفّن القاتلة التي حذّر منها السيد المسيح بقوله «إن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي الى النور، لئلا تُوبّخ أعماله».
إن أغلب شعراء وأدباء اللغة العربية فرديون أنانيون شخصيون همّهم الشهرة الشخصية عند العامة الجاهلة، وليس تثقيف العامة الجاهلة وتعليمها الحكمة وتنويرها لتبتعد عن التيه والضلال. بل هذه الفئة من الشعراء الفرديين باستخدامهم تعابير الطلاسم لا يستطيعون أن يخرجوا من شرانقهم في عتمات ليل أنانياتهم البهيم الى نور النهار الاجتماعي البهي. وبدون الانطلاق من تعاليم ترسيخ مبادئ الخير العام في المجتمع القومي الانساني لا يمكن ان يولد شعر سامٍ يصلح ويحسّن حياة المجتمع وأفراده.
ان أي فكر او خاطر أو تصور أو حكمة أو معرفة أو فلسفة أو علم أو فن أو أدب انساني، شعراً كان أو نثراً، يجب أن تكون جذوره في الحياة ولأجل الحياة ورقيّ الحياة وتسامي الحياة ليكون الإنسان جديراً بموهبة العقل التي وهبه الله إياها. وكل إنتاج فكريّ وأدبيّ وشعريّ لا يكون له من هذه الموهبة هادٍ فلا هادي له أبداً، وأحكم الشعر الشعر الذي ينطلق من هذه الموهبة منارةً مشعّة بكل حق وخير وجمال تهدي من يسير على ضوئها الى أحب المرامي وأسمى المُثُل.
والشعر الشعر السامي منارةٌ تهدي الى الحق، وحكمةٌ من اكتسبها أعطيَ خيراً كثيراً، وجمالٌ من تمتع برؤيته رأى ما لا يراه ضعاف البصيرة من فكرٍ بديع، وشَعَرَ بما لا يشعر به من لا شعور له ولا إحساس بآلام الناس ومطامحهم وآمالهم.

*باحث وشاعر قومي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى