قمة الجزائر: بعد التفتيت والتطبيع أين فلسطين ولمّ الشمل…!
} د. عدنان منصور*
كم كنا نتمنّى أن ينبثق عن القمة العربية في الجزائر، ما يثلج قلب الشعوب العربية، بعد أن دبّ فيها اليأس والإحباط من القمم العربية، خاصة أنّ القمة عقدت في الجزائر، البلد الذي له مكانته العربية، والدولية، وصدقيّته في علاقاته مع دول العالم. والذي ما كان يوماً إلا مدافعاً قوياً عن قضايا الأمة وشعوبها، ومناصراً شريفاً للحق والعدل أين ما كان، ومدافعاً عن القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، ومقاومته الوطنية الباسلة.
لقد أمل العرب من قمة الجزائر خطوة كبيرة تجاه فلسطين، وفي لمّ الشمل، واتخاذ قرارات شجاعة حاسمة توضع موضع التنفيذ، فإذا بالبيان الصادر عن القمة مخيّب للآمال، إذ صيغ بأسلوب منمق فضفاض، لا يزعج هذا الطرف ولا يحرج ذاك.
أراد بيان القمة التوفيق بين الجهات العربية المتباينة في مواقفها، وتوجهاتها، وسلوكها، ونهجها حيال مسائل مهمة حساسة، متجنّباً الخوض فيها، وعدم تبنّي قرارات وإجراءات رادعة وحاسمة، ترتبط مباشرة بفلسطين وقضيتها، وبمقاومة شعبها، وبالأزمات التي تعاني منها بعض دول القمة، حفاظاً على «وحدة» العمل العربي المشترك، و»إنجاح» القمة.
لم يتضمّن البيان موقفاً واضحاً، أو إجراء صارماً، تجاه العدو «الإسرائيلي» والتطبيع معه، لا سيما بعد تماديه المتواصل في اعتداءاته، وحصاره الخانق للفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم. كما تجاهل البيان أيضاً تقديم الدعم والتأييد الصريح للمقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال «الإسرائيلي»، وممارساته العنصرية والإجرامية التي يرتكبها يومياً ضدّ الشعب الفلسطيني !
قمة الجزائر، أريدَ لها أن تكون قمة فلسطين وجمع الشمل العربي! فأيّ جمع شمل، والثقة المتبادلة لا تجد طريقاً لها الى عقول معظم الحكام العرب! فمع كلّ قمة عربية، يكثر الحديث قبل انعقادها، عن رأب الصدع، وتوحيد الصف، ولمّ الشمل، وإزالة الخلافات المستحكمة بين دول عربية وقادتها.
يذهب القادة العرب الى القمة العربية بخلافاتهم، وخطبهم التي تكرّر نفسها، ويعودون منها ببيان فضفاض، يُضاف الى بيانات القمم التي سبقتها، فيما يبقى الأداء الهزيل هو هو، وتبقى القمم العربية لا شبيه لها بين القمم الدولية الأخرى، لا من حيث اللون أو الطعم، أو الرائحة، أو الهدف، أو الجدية، أو الالتزام بالمسؤولية الكاملة.
عالم عربي مأزوم، يتخبّط في أزماته السياسية، ومشاكله الأمنية، وأوضاعه الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية الصعبة، فيما قممه العربية لا تزال تدور حول مفردات بياناتها، وهي لا حول ولا رجاء منها.
ففي الوقت الذي يمتلك العالم العربي ثروات بشرية، وطبيعية، وطاقوية هائلة، فضلاً عن موقعه الجيو سياسي ما يؤهّله أن يكون أكثر مناطق العالم ثراء ورفاهية، وأعلاها في مستوى دخل مواطنيه، نجد أنّ العاطلين من العمل يبلغ عددهم اليوم 20 مليون شخص، وأنّ الأمية تطال 100 مليون عربي (المقصود بالأمية هنا عدم معرفة القراءة والكتابة، وليس فقط عدم معرفته بالحاسوب). كما أنّ هناك %32 من سكان العالم العربي، أيّ 114 مليون مواطن، يعانون من الفقر الشديد، عدا الحرمان من الرعاية الصحية، الذي تصل نسبته الى %26 من تعداد سكان العالم العربي، أيّ 115 مليون إنسان!
بيان قمة الجزائر تناول قضايا وكأنها آنية او حديثة العهد،
وليست قضايا تعود الى الوراء 77 عاماً عند انعقاد أول مؤتمر قمة في مصر.
يركز البيان على القضية الفلسطينية! وأيّ قضية ستدافع عنها القمة إذا كان في داخلها المعترِف والمطبِّع، والحليف، لدولة الاحتلال، فيما زعماء القمة يشاهدون يومياً المجازر والاضطهاد، والممارسات العنصرية التي يقوم بها جيش الاحتلال «الإسرائيلي» ضدّ الفلسطينيين، وانتهاكه للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية على السواء، دون أن تكترث «إسرائيل» بالسلطة الفلسطينية وبالمعترفين بها، والمطبّعين والمتحالفين معها !
فما الذي فعلته القمم العربية، وآخرها قمة الجزائر، وما هي الإجراءات الحاسمة التي اتخذتها حيال «إسرائيل» جراء الانتهاكات اليومية للمسجد الأقصى، والاعتداءات «الإسرائيلية» ضدّ سورية! ما الذي فعلته لتجفيف منابع الفصائل الإرهابية التي فتكت في أكثر من دولة عربية، وهي التي تلقى من الخارج، الدعم المالي والمعنوي والعسكري واللوجستي من جهات معروفة ومكشوفة؟! ما الذي حققته القمم العربية لوقف نزيف الدم في ليبيا وسورية واليمن والصومال والسودان والعراق؟! كيف يمكن لبيان القمة أن يرفض التدخل في الشؤؤن الداخلية للدول العربية، فيما على الساحة العربية أكثر من طرف عربي أشعل الفوضى والحروب، وذلك باعتراف صريح من أحد المسؤولين العرب الكبار !
ما الذي نفذته القمم العربية من مشاريع تنموية باهرة على مستوى العالم العربي، وأين منها من التكامل الاقتصادي الذي لا ينفك الحديث عنه في كل قمة!
كيف يمكن لعالم عربي أن يكون له القرار السيادي والسياسي الحر المستقلّ، وفيه من يفوّض أمره لقوى الهيمنة والتسلط في الخارج، ويسير في فلكها، ويجعل بلده مرتعاً لقواعدها العسكرية!
كيف يمكن للمطبّع مع «إسرائيل»، والمتعاون الى حدّ بعيد معها، أن يكون في الوقت ذاته الى جانب الفلسطينيين وقضيتهم؟! وأين قرارات وعقوبات القمة التي تردع وتلاحق «إسرائيل» على مجازرها واعتداءاتها أو على الأقلّ، تجميد التعامل معها من قبل المعترفين والمطبّعين معها!
لقد طالب بيان قمة الجزائر دول الشرق الأوسط الانضمام الى معاهدة حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، والملحق التابع لها، في حين أنّ القمة تعرف جيداً أنّ دول الشرق الأوسط انضمّت الى المعاهدة باستثناء «إسرائيل»، ولم يطالبها البيان بالاسم وبكلّ قوة للانضمام الى المعاهدة وهي التي تمتلك السلاح النووي وترفض بصورة قطعية الانضمام الى المعاهدة!
يصرّ بيان القمة على التمسك بالمبادرة العربية للسلام لعام 2002! وما نفع المبادرة إذا كانت «إسرائيل» رفضتها بالمطلق في حينه، وأتى من يعزز هذا الرفض في ما بعد بتطبيع بعض العرب مع الكيان «الإسرائيلي»؟! وهل يتصوّر العرب انّ إسرائيل» تأخذ بالاعتبار جدية المبادرة العربية السلام، وهي التي تعرف ما تأخذه منهم، وما هم على استعداد ليقدّموه لها؟!
القمم العربية تأسّست عام 1945، قبل قمم عدم الانحياز، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، وشنغهاي، وبريكس، وغيرها من القمم. وما علينا في الوقت الحاضر إلا أن نرى الفرق الشاسع بين قممنا العربية، وقمم دول العالم الأخرى، ونعرف بأية طريقة وأيّ أسلوب تدير قممنا عالمنا العربي وشعوبه، وكيف تدير في المقابل قمم العالم دولها وشعوبها!
لا عجب في كلّ مرة ينعقد فيها مؤتمر القمة العربية، إنْ رأينا دول العالم لا تأخذ بالاهتمام قممنا العربية، ولا تكترث بها، لأنها تدرك جيداً، ومن خلال متابعتها لها، أنها سخية في الأقوال، وشحيحة جداً في الأفعال!
إنها مأساة العرب، خلافات، وتشرذم، تباين في الأفكار والتوجهات، والانتماءات، والاصطفافات، والأفعال. لا تغيب عنهم الخلافات، وإنْ غابت فلِوقت، ثم تعود لتطفو على السطح من جديد. لم تكفهم وحدة التاريخ، والجغرافيا، واللغة، والثقافة،
والروحانية، والمصير المشترك، كي تجمع شملهم وتوحدهم حول هدف مشترك !
هكذا هم وهكذا سيبقون!
لا يوحّدهم ويلمّ شملهم إلا نبي. لكن زمن الأنبياء ولى!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.