أميركا التي نعرفها لن تعود
ناصر قنديل
– قد يظنّ البعض أن هذا العنوان سياسي، ينطلق من موقف مناوئ للسياسات الأميركية، ويضع التمنيات في قالب تحليل، خصوصاً أن مناسبة الكلام هي الإطلالة على الانتخابات النصفية التي تشهدها أميركا اليوم، ويفترض أن تشكل علامة على قدرة الديمقراطية الأميركية العريقة على تجديد المشهد السياسي وإثبات وجودها. وقد يظنّ بعض آخر أن هذا العنوان يريد الإشارة الى التراجع في القبضة الأميركية على العالم، بما يعني تآكل القدرات الأميركية والأوروبية والأوكرانية في محاولة رسم مسار عسكري تصاعدي بوجه روسيا، وتآكل القدرات الأميركية والأوروبية في محاولة توفير موارد بديلة عن روسيا للطاقة عشيّة موسم الشتاء، وتآكل القدرات الأميركية والأوروبية في محاولة رسم مسار اقتصادي عالمي يواجه صعود الصين، وبالتوازي تآكل القدرات الأميركية والأوروبية على فرض مسار الهيمنة العسكرية، خصوصاً في المنطقة، وبالأخص مع تصاعد دور قوى المقاومة، وهي كلها إشارات صحيحة تتيح القول إننا أمام أميركا مختلفة، ضعيفة وعاجزة، ولا تملك خططاً بديلة لأهم سلاحين بنت عليهما سطوتها، التدخلات العسكرية والعقوبات، وقد بدت محدودية قدرتهما في المواجهة مع روسيا، بينما المواجهة مع الصين لم تبدأ بعد، لكن ما يشير إليه هذا العنوان هو شيء آخر.
– عندما يجاهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بـ “شكوكه في أن الولايات المتحدة تستطيع البقاء والاستمرار لعامين آخرين”، ويقول إن “الولايات المتحدة لم تكن قط في مثل هذه الحالة السيئة التي هي عليها الآن”، فهو لا يقصد ما تحدّث عنه من عدم احترام أحد في العالم لبلاده فقط، بل التراجع الاقتصادي والتقني والثقافي، وتهالك البنية التحتية والجامعات والابتكار والمكانة المتقدّمة في الصناعات التقنية العالية، وإنتاج الثقافة والعلوم، وطغيان الهموم المعيشية على الأولويات اليومية للأميركيين، حيث التضخم الى تصاعد بلا سقف، ولا أمل بالقدرة على الضبط، والبطالة الى تزايد، والاقتصاد مجرّد أرقام على الورق، بورصة تتضخّم أحجامها، والأحجام لا تجد ترجمتها في حياة الأميركيين، والحلم الأميركي صار كابوساً، والتعدد الأميركي صار تناحراً عنصرياً، عرقياً ودينياً، والولايات المتحدة لم تعُد متّحدة وفكرة الانفصال تلقى قبول قرابة نصف الأميركيين، والتساؤلات حول الحرب الأهلية كخطر داهم ينتظر الأميركيين، ترد في مقالات أغلب الكتاب الأميركيين، كما كتب أحد أكبر كتاب الواشنطن بوست مارك فيشر في نهاية آب الماضي، وكما صرّح عدد من الخبراء الأميركيين في شؤون الأمن لتقرير نشرته صحيفة الصنداي تايمز، وكما حذرت الكاتبة باربرا والتر في الغارديان قبل يومين، وكما قالت دراسة نشرتها جامعة كاليفورنيا أعدّها ثمانية من كبار الباحثين فيها عن أن أكثر من نصف الأميركيين يعتقدون بأن بلادهم ذاهبة الى الحرب الأهلية، بينما قال استطلاع رأي لمحطة سي بي أس نيوز العملاقة ان نسبة الذين يخشون الحرب الأهلية تزيد عن 80% من الأميركيين.
– تتزايد مخاوف الأميركيين مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة في طريقها نحو حرب أهلية جديدة. ويرى مقال نشر مؤخراً في صحيفة “التايم” أن 41 بالمئة من ناخبي بايدن، و52 بالمئة من ناخبي ترامب ممن استطلعت آراؤهم، يفضلون انفصال الولايات الحمراء أو الزرقاء عن الاتحاد لتشكيل دولتهم المنفصلة، مع استعداد 30 بالمئة من الجمهوريين، و11 بالمئة من الديمقراطيين للجوء إلى العنف لإنقاذ البلاد. وهذا يعني أن ما يقرب من 20 مليون أميركي مستعدون للقتال في بلد يتواجد فيه أكثر من 400 مليون قطعة سلاح. وفي أوائل تشرين الأول الماضي، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” تخوّف أحد المختصين في إدخال البيانات من حدوث شيء ما في الانتخابات النصفية، والتي ستكون “شبيهة بالسادس من كانون الثاني يوم اقتحام مبنى الكونغرس في الكابيتول، ولكنه قال إن الأحداث ستكون أكثر عنفاً” وأوسع نطاقاً، حيث ستدخل جماعات الاحتجاج المسلحة من كلا جانبي الطيف السياسي في مواجهات عنيفة.
– قال الرئيس السابق دونالد ترامب في حملته الانتخابية قبل ستة أعوام، وكرر الرئيس جو بايدن في حملته الانتخابية قبل عامين، كلاماً متطابقاً لجهة أن استعادة أميركا العظمى يبدأ باستعادة أميركا العظيمة، أي أن النفوذ الأميركي الخارجي والمكانة الدولية لواشنطن يرتبطان مباشرة بالتفوق الأميركي كدولة نموذج ومثال في حل المشاكل والقدرة على التقدم والنجاح، لكن الرئيسين وجدا نفسيهما في قلب حروب الدفاع عن أميركا العظمى، وتسبب ذلك بالمزيد من التراجع في فكرة النموذج والمثال والقدوة، حتى صار إنقاذ أميركا من التفكك والحرب الأهلية مهمة شديدة الصعوبة، وتتقدّم على السعي لجعلها نموذجاً ومثلاً. سقطت أميركا العظمى، وسقطت أميركا العظيمة، بكلمة قالها الرئيس بايدن “إن التفوق في العالم عسكرياً واقتصادياً يتوقف على حجم دور الدول في إنتاج أشباه الموصلات والرقائق الدقيقة”. و”للأسف، نحن لا ننتج حاليًا أيًا من أشباه الموصلات المتطورة في أميركا اليوم”.
– اميركا اليوم لم تعُد ولن تعود أميركا التي نعرفها، وربما يكون مفيداً التمعن في كلام الرئيس السابق دونالد ترامب في شهر آب خلال التحضير للانتخابات النصفية في مؤتمر للحزب الجمهوري، وقوله “إن الولايات المتحدة أصبحت دولة من العالم الثالث من نواحٍ كثيرة”، «نحن دولة يتخبّط اقتصادها، وتعطلت فيها سلاسل التوريد، حيث لا تمتلئ المتاجر، ولا تصل الحزم، ويتواجد نظامها التعليمي في أسفل أي قائمة». والولايات المتحدة «لم تعد تحظى بالاحترام والاستماع لرأيها في العالم». والولايات المتحدة “سجلت أعلى معدل تضخم منذ 40 عاماً، وأعلى أسعار للطاقة”. و«نحن أمة أصبحت أضحوكة من نواحٍ كثيرة»، و”لم يعُد من الممكن اعتبار أميركا دولة مستقلة في مجال الطاقة”، و”لسنا دولة تقود العالم اقتصادياً أو سياسياً”.