أزمة النّظام الطّائفي في لبنان: هل تكونُ العلمانيّة هي الحلّ؟
} د. عدنان نجيب الدين
فيما ينشغلُ الزّعماءُ السّياسيّون اللّبنانيون بانتخابات رئيس للبلاد يخلف الرئيس ميشال عون، وفيما يجد اللّبنانيون أنفسهم غارقينَ في معمعة الانهيار المالي والاقتصادي، وفيما تنشطُ موجةُ هجرة الشباب من لبنان باتّجاه مختلف أصقاع الأرض بحثاً عن فرص للعيش والعمل بعدما سُدّت في وجوههم إمكانية إيجاد حلول للأزمات التي يعيشونها في بلدهم، والتي نتجت عن نظام سياسي متخلّف لم ينتج إلا الفساد والفقر والنزاعات الطائفيّة والمذهبيّة بسبب محاولات الزّعماء إذكاء روح الفتنة بين مكونات الشّعب اللّبناني لتأمين استمراريّتهم في مراكز القرار والهيمنة على مفاصل الدولة والاقتصاد وكسب المزيد من الثّروات حتى أصبح لدى المواطن قناعة بأنّ السياسي لا همّ له سوى نهب مال الدولة وإفلاسها ولو تضوّر الشعب جوعاً وفقد إمكانية العيش الكريم في بلد هو من أجمل البلدان وأغناها طبيعة جغرافيّة وحيويّة إنسانية وعلوماً وثقافةً وإشعاعاً حضاريّاً.
وهنا نطرحُ السّؤال المنطقي بعد كلّ الأزمات والحروب التي عاشها شعبنا اللّبناني على مدى أكثر من قرن من وجود هذا الكيان الغني بتنوعّه الثقافي والديني، لنقول: أما آن لهذا الشعب أن يجد حلاً جذرياً لكلّ هذه الأوضاع المأساوية، وعدم الاكتفاء بالتّرقيع وخياطة التسويات المؤقتة التي لا تتجاوز كونها مسكنات لمرض عضال اسمه: النظام السّياسي الطائفي العنصري؟
والجواب الوحيد المنطقيّ هو في استئصاله لأنه سبب العلة وكلّ ما عدا ذلك هو مداواة لأعراض المرض لكنها تبقيه ولا تعالج أصل وجوده علاجاً شافياً.
وبناء عليه نطرح السّؤال الثّاني وهو: أيّ نظام سياسيّ يصلح لهذا البلد؟
الجواب ليس اجتراحاً من عنديّاتنا ولا اختراعاً، بل هو حلّ عملي سبقتنا اليه بعض المجتمعات لا سيما الغربية منها التي عاشت ظروف حروب أهلية ناتجة عن انقسامات دينيّة حادة ذهب ضحيتها الملايين من البشر.
إنّ أهمّ ما جاء به عصر الأنوار في الغرب على الصعيد الفلسفي هو اعتماد العقلانية في حلّ المشكلات أو تفسير الظواهر، وكذلك اعتماد العلمانيّة كفلسفة سياسيّة في الحكم والإدارة.
وهنا قد يتنفضُ البعض اعتراضاً على مبدأ العلمانية ويتهمها بأنها عقيدة كفر وإلحاد. ونسارعُ إلى طمانته فنقول: مهلاً، لا ضير في اعتمادها وهي ليست كذلك، وتعالوا لنقرأ ما أرساه آباء العلمانية عندما توصلوا إلى قناعة بأنّها الحلّ الوحيد العقلاني للصّراعات الإتنيّة والطائفية.
تقوم العلمانيّة على مبادئ ثلاثة:
1 ـ حريّة الإعتقاد وحريّة التعبير عن قناعات الفرد في حدود احترام النظام العام،
2 ـ الفصل بين المؤسسات العامّة والمؤسسات الدينية،
3 ـ مساواة الجميع أمام القانون بغضّ النظر عن معتقداتهم أو قناعاتهم.
العلمانيّة تضمن للمؤمنين وغير المؤمنين نفس الحق في حرية التعبير عن معتقداتهم..
كما تضمن حرية ممارسة العبادة وحرية الدين، وكذلك الحرية تجاه الدين.
لا يمكن تقييد أيّ شخص بالحقّ في احترام العقيدة أو القواعد الدينية.
العلمانية تعني الفصل بين الدولة والمنظمات الدينية.
يقوم النظام السياسي على أساس السيادة الوحيدة للمواطنين، والدولة…
وينتج من هذا الفصل حياد الدولة والمجتمعات والخدمات العامة وليس مستخدميها.
وهكذا تضمن الجمهورية العلمانية المساواة بين المواطنين في ما يتعلق بالخدمة العامة، مهما كانت معتقداتهم أو قناعاتهم».
(المصدر: موقع وزارة الداخلية الفرنسية)
ونشيرُ هنا إلى أنّ عشرات الملايين من المسلمين الذين يعيشون في الغرب لا يجدون حرجاً في ممارسة طقوس عباداتهم، فالعلمانية لا تمنع الزواج الديني ولا ممارسة أيّ من الشعائر الدينية طالما أنها لا تتعارض مع النظام العام. كما أنّ تطبيقها يختلف من دولة إلى أخرى، وذلك بحسب ما يقره المجتمع، واذا كنا قد بدأنا نشهد بعض الانحرافات في تطبيقها لدى بعض النظم السياسية في الغرب، فهذا لا يعني أنها تمثل جوهر العلمانية. ففرنسا مثلاً، وبتأثير بعض الممارسات المتطرفة البعيدة عن جوهر الإسلام، شرعت بضغط من اليمين قانوناً يمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات الرسمية، بينما هو مسموح به في أميركا وكندا ومعظم الدول العلمانية.
هذه المبادئ العلمانية هي التي سادت في الدول التي سعت الى الاستقرار والعمل الاقتصادي المنتج والرفاه الاجتماعي وأسست أنظمتها الديموقراطية التي أدّت بها إلى الازدهار، وأرست السلم الأهلي في مجتمعاتها، ومنعت الامتيازات الطائفية أو حتى الطبقية فانضوى جميع أبناء الشعب تحت القانون الذي يساوي بين الجميع، بحيث يصبح الفساد متعذّراً إلا في ما ندر، وأصبح شدّ العصب الطائفي أو المذهبي او إثارة الفتن الدينية من المحرمات التي يعاقب عليها القانون كلّ من يسلك دروبهما. ومعروف عندنا أنّ النظام الطائفي يتيح المجال لما يسمّى زعماء الطوائف في الطبقة السياسية الحاكمة لإثارة العصبيات المذهبية والطائفية بحجّة تحقيق مصالح الطوائف وحقوقها وامتيازاتها، بينما الحقيقة انهم يسعون الى تكريس وجودهم سياسيّاً ليضمنوا لأنفسهم حصصاً في مغانم الحكم والاستئثار بها. وهذا الأمر يصبح غير متاح في نظام علماني يكرّس مبادئ الكفاءة والنزاهة والمساوة بين المواطنين أمام القانون، فتنفكُّ عرى علاقة مصلحة المواطن بالزعيم لصالح علاقة المواطن بالدولة. وهذا ما يجعل المواطنين ينضوون كلهم تحت لواء الدولة التي تصبح هي مرجعيتهم الوحيدة، فينتهي عهد الزعامات الطائفية والصراعات المذهبية لتحلّ محلها اختلافات الرؤى السياسية للأحزاب بعد إعادة النظر ببنيتها وتطويرها وتوجهاتها لتصبح وطنيةً في جوهرها وممارساتها، تحرّكها مصالح المواطنين على اختلاف انتماءاتهم، فيتوحّد أبناء الطوائف في مطالبهم، ولا تعود الخلافات بين زعماء الطوائف تحرك العصبيات الدينية كما هو حاصل اليوم. لأنّ الطائفية تكون قد غابت عن السياسة والنظام كما غابت عن المؤسسات الإدارية، ويأتي دور الأحزاب السياسية التي تضمّ مختلف الأطياف الاجتماعية لرسم سياسات اقتصادية للدولة التي تسعى لتأمين احتياجات الناس وتأمين تقدّمهم ورعايتهم ومستقبل الأجيال الطالعة. اضافة الى أنّ النقابات تستقلّ عن الزعماء وتمارس دورها الحقيقي من خلال النضال المستمرّ لتأمين المطالب المعيشية وتحسين ظروف العمل والإنتاج.
وفي النظام العلماني تغيب السياسة عن الإدارة، فلا يجري التوظيف او احتلال المناصب في الدولة خاضعاً للمزاجات الحزبية والانتماءات الدينية، لأنّ المصلحة العليا للدولة ومصلحة المواطنين هي الغالبة.
لقد حان الوقت لتغيير النظام الطائفي المدمّر للدولة والوطن ومصالح المواطنين واستبداله بنظام سياسي جديد يُبنى على عقد اجتماعي جديد.
فهل سيقتنع اللّبنانيون أخيراً بأنّ نظامهم الطائفي العفن قد عفا عليه الزّمن ولم يعد صالحاً لاستمرار حياتهم وحماية وطنهم وسيادته؟ وهل تصبح العلمانية نظامهم السياسي الجديد الذي سيخلّصهم من قيود الزعامات الطائفية واستئثارها بخيرات بلدهم فيؤمّن لهم المساواة والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسيّ وحماية الوطن والمواطنين وسيادة الدولة والقانون؟