فاطمة برناوي لا تموت…
} سارة السهيل
صعقني خبر وفاة المناضلة الفلسطينية فاطمة برناوي ـ رحمها الله ـ أترحَّم عليها واستعيد معها ذكريات طفولتي ولقائي بها في الطائرة الآتية من لندن الى عمّان. أذكر أنّ فاطمة برناوي كانت طوال الرحلة تحكي لي عن قصة نضالها مع زوجها من أجل نصرة القضية الفلسطينية، وكيف سُجِنا وحُرِما من الإنجاب بعد خروجهما من السجن وقد بلغا عمراً متقدِّماً.
وقفت لها في الطائرة احتراماً وأنا أجلس على المقعد الملتصق بمقعدها، ثمَّ انهمرت دموعي وقلت لها: هل أنا في حُلُم لأنني أجلس بجانب إمرأة عظيمة مثلك؟ فرِحَت بما سمعته كثيراً، وقالت لي بمثلك أستبشر خيراً بالأجيال القادمة.
كان جلوسي بجانبها ليس حلماً بل حقيقة، وكنت أسمع عن البطلات من النساء، ولكنني الآن تعرّفت على إحداهنًّ، وكنت أستمع وأصغي بشغف وهي تروي لي قصة كفاحها، وأنا فتاة صغيرة لم تلوّثها الأيام، ولم تفتك بعقلها هواجس الإعلام الذي مع مرور الزمن جعل من القضية الفلسطينية للأسف قضية ثانوية مهمَّشة.
كانت مشاعري في ذلك الوقت شديدة البراءة، وإنْ كنت لم أتغيَّر وإنما «الدنيا» هي التي تغيَّرت، وقد نشأت في أسرة كانت أمي فيها تحكي عن فلسطين وحقوق شعبها، وكان أبي يغرس فينا القومية العربية وحب الضعفاء ونصرة أهل الحق. كانت الفتيات معي يُقبلنَ على الاقتداء بالمطربين وقصصهم وأخبارهم، بينما كانت تستهويني قصص البطولة والفداء والعروبة.
كانت فاطمة برناوي تحكي تفاصيل رحلتها مع النضال الفلسطيني، فأشعر وكأنني أمام قصة بطولة حقيقية لنصرة وطن يضحِّي الإنسان فيه بحياته كلها لاستعادة هذا الوطن المسلوب قهراً. وتواصل البطلة فاطمة قصتها مع النضال والمعاناة، وإذا بمشاعري الجياشة آنذاك تتفتّق بالاحترام والتقدير والحب لمعاني التضحية والفداء.
وعند انتهاء رحلة الطائرة عدت أنا إلى عمّان، وعادت فاطمة إلى الضفة، لكنها بعد فترة فاجأتني باتصال هاتفي، ثمًّ تبادلنا الإتصالات، إلى أن أوقفتها مشاغل كلّ واحدة منا بظروفها الخاصة، وفقدان أرقام الهواتف، ولكن قصة فاطمة وذكريات البطولة والنضال والطفولة الحية بداخلي لم تغادر أو تغب، لا سيما أنّ فقيدة النضال الفلسطيني فاطمة، هي أول أسيرة في تاريخ الثورة الفلسطينية، حيث تمّ اعتقالها 19 في أكتوبر/ تشرين الأول 1967، لها السبق في خوض العمل الفدائي منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965، وهي أول فتاة فلسطينية تعتقلها قوات الاحتلال «الإسرائيلي».
والراحلة من مواليد مدينة القدس لأسرة مناضلة، بدأت رحلة نضالها بعمر التاسعة، حين انتقلت مع والدتها وأسرتها من القدس إلى مخيم للاجئين بالقرب من عمّان. وقاتل والدها محمد علي برناوي في ثورة فلسطين 1936، برفقة الحاج أمين الحسيني، فبقي في فلسطين.
واعتقلت والدتها وشقيقتها في أعقاب تنفيذها للعملية الفدائية، فعرفتا مبكراً مرارة سجن الاحتلال وذاقتا مشاعر الفقد والحرمان من الأهل.
واصلت فاطمة برناوي نضالها وشقيقتها ضدّ المحتلّ الغاصب، واعتقلت عقب عملية فدائية وحُكِم عليها بالسجن مدى الحياة، لكنها أمضت في السجن عشر سنوات فقط بسبب تدخل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات لدى السلطات «الإسرائيلية» عام 1977.
ساهمت الفقيدة في استتباب الأمن الفلسيطيني بعد قيام السلطة الفلسطينية 1994، فأسّست الشرطة النسائية الفلسطينية بعد عودتها للوطن وكانت تحمل رتبة عقيد، ومنحها الرئيس محمود عباس، وسام نجمة الشرف العسكري، تقديراً لدورها النضالي الريادي وتضحياتها من أجل وطنها وشعبها.
فاطمة برناوي لم تمت، وستظلّ حية بقصة كفاحها ونضالها وتضحياتها من أجل تحرير وطن.
كلّ مواطن تُحتَلّ أرضه يبنغي ان يكون في نضال مستمرّ مثل فاطمة لتحريرها والوطن والعرض والشرف، فالشعب الفلسطيني ليس إرهابياً كما يحاول الإعلام الغربي أن يصفه ويلصق به تهمة الإرهاب، إنّ شعب فلسطين مناضل ومقاوم، وفاطمة برناوي في مقدّمتهم، وكلهم أبطال يستحقون الاحترام والتقدير والتحية.