أولى

تقدّرون فتضحك الأقدار: أميركا والمقاومة تلتقيان على جوزف عون رئيساً للجمهورية؟

 

‭}‬ د. عصام نعمان*
هبوط لبنان سيرورةٌ لا تتوقف. كلّما رسا على قاعٍ تبيّن أنّ ثمة قاعاً أدنى منه يُدفع للهبوط إليه. هذه السيرورة الفريدة حرصت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، على تظهيرها للملأ، لا سيّما أنّ لبلادها يداً بارعة في تكوينها.
في لقاء نظمه “مركز ويلسون” عن السياسة الأميركية في لبنان يوم الجمعة الماضي وأداره السفير الأميركي السابق في بيروت ديفيد هيل، قالت ليف: “أرى سيناريوات عدّة، التفكك هو الأسوأ بينها، قد تُفقد قوى الأمن والجيش السيطرة وتكون هناك هجرة جماعيّة، وسيناريوات أخرى كارثية، وفي الوقت نفسه أتخيّل أنّ النواب أنفسهم سيحزمون حقائبهم ويسافرون الى أوروبا حيث ممتلكاتهم”.
لم تكتفِ ليف بذلك. قالت أيضاً “إنّ هناك طروحات مفادها أنّ انهيار لبنان سيتمكّن بطريقةٍ ما إعادة بنائه من تحت الرماد، متحرراً من اللعنة التي يمثلها حزب الله (…) الذي يشكّل تهديداً لنا ولجيران لبنان وللبنانيين أنفسهم، ونحن مستمرون في فرض عقوبات عليه ومحاصرة شبكاته في المنطقة وغيرها”.
بعد ساعات قلائل على تصريحات ليف، ترجمت واشنطن تهديداتها بقيام مُسيّرات “مجهولة الهوية” بالإغارة على قافلة صهاريج محمّلة بالمازوت الإيراني كانت تعبر الحدود العراقية ـ السورية بالقرب من مدينة البوكمال في طريقها الى سورية ومنها، كما ترَدّد، الى لبنان.
ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تجهر فيها واشنطن (و”اسرائيل”) بتصميمٍ راسخ عن منع لبنان من قبول شحنات مجانية من الفيول والمازوت الإيراني بدعوى أنها تصبّ في مصلحة حزب الله. غير أنّ ثمة سؤالاً ينهض للتوّ بعد غارة المُسيّرات “المجهولة” على صهاريج المازوت الإيراني العابرة للحدود العراقية ـ السورية: هل هي مقدّمة لأحد السيناريوات الكارثية التي أشارت اليها ليف في تصريحاتها الأخيرة؟
بعد أيام قلائل من الإغارة على صهاريج الفيول والمازوت الإيراني، هبط لبنان الى قاعٍ أدنى في سيرورة انهياراته المتواصلة. فإلى الانسداد السياسي الذي أفرز فراغاً في سدة رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وعجز مجلس النواب منذ مطلع الشهر الحالي وخلال جلسات متعددة عن انتخاب خلفٍ له، يلوح في الأفق السياسي انهيار جديد قد يؤدي الى شلل يضرب مجلس النواب نفسه ويتسبّب في تعطيل السلطة التشريعية. ذلك أنّ فريقاً وازناً من النواب يهدّد بعدم حضور ايّ جلسة يُدعى إليها المجلس لدرس وإقرار مشروع قانون القيود على التحويلات المصرفية المعروف باسم “كابيتال كونترول” بدعوى انّ المادة 75 من الدستور تنصّ على “أنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو ايّ عمل آخر”.
تعطيلُ السلطة التشريعية على هذا النحو يؤدّي الى شلّ الدولة برمّتها لأنّ السلطة التنفيذية معطّلة بشغور سدة رئاسة الجمهورية واعتبار الحكومة مستقيلة “عند بدء ولاية مجلس النواب” (الفقرة “هـ” من المادة 69/دستور) التي بدأت في 15 أيار/ مايو الماضي، والسلطة القضائية معطلة أيضاً لإضراب القضاة عن العمل بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة والنقل.
الى ذلك، يشوب عمل قوى الأمن والجيش الكثير من الاضطراب والتقصير بسبب النقص الحاصل في صفوف الجنود نتيجةَ عدم التحاق الكثير منهم بوحداتهم بحجة عدم كفاية رواتبهم لمواجهة تكلفة المعيشة الباهظة بعد الانهيار المالي والاقتصادي الذي ضرب البلاد منذ أكثر من سنتين.
هذه العوامل والتحوّلات دفعت وتدفع البلاد الى شفير الانهيار الساحق، والدولة الى مزيد من التفكك. فهل هي بوادر سيناريو التفكك الذي وصفته باربرا ليف بأنه الأسوأ بين السيناريوات الكارثية التي تتهدّد لبنان؟
إذا كان الأمر كذلك، فهل تستمرّ الولايات المتحدة الأميركية في التزام سياسة محاصرة حزب الله وفرض العقوبات عليه ما يؤدّي عملياً إلى منع لبنان من قبول شحنات الفيول والمازوت الإيراني المجانية ويتسبّب تالياً بتفاقم أزمة انقطاع الكهرباء، وتعاظم أجور النقل، وتعطيل وصول موظفي القطاع العام الى مراكز عملهم، وتوقّف المرافق العامة والمعامل والمصانع؟
هل إصرار الولايات المتحدة على التزام سياسة الحصار والعقوبات يجد تفسيره في قول باربرا ليف “يجب أن تسوء الأمور أكثر قبل أن يصبح هناك ضغط شعبي (…) لا شيء يؤثّر مثل الضغط الشعبي الذي سيتحرك من جديد، عاجلاً او آجلاً”؟
هل يُفهم من تصريحات ليف هذه أنّ الولايات المتحدة تتقصد توليف وتفجير ضغط شعبي “لأنّ انهيار لبنان سيمكّن بطريقةٍ ما إعادة بنائه من تحت الرماد”؟
كلام باربرا ليف منشور ومعروض بكلّ أبعاده وتداعياته أمام اللبنانيين جميعاً، محافظين وتغييريين، حلفاء حزب الله وأعداءه، أصدقاء الغرب وخصومه، حلفاء أميركا ومعارضيها، أنصار المقاومة والمطالبين بنزع سلاحها كما بالتطبيع مع “إسرائيل”.
لذلك الجميع مطالَبون بموقف قاطع مما هو واضح ومما هو مُستبطَن في تصريحات مساعدة وزير الخارجية الأميركي، بل إنّ الجميع مطالَبون، لا سيما أهل الرأي ممن ينظرون الى أبعد من أنوفهم، بالإجابة عن السؤال الخالد: ما العمل لتمكين اللبنانيين أنفسهم، سلمياً وتدريجياً وديمقراطياً، من تجاوز منبع المعاصي والمفاسد والكوارث المعروف باسم نظام المحاصصة الطوائفي الذي يستبدّ بهم منذ إعلان دولة لبنان الكبير… والعليل سنة 1920؟
وحدها المقاومة، من بين المطالَبين بالردّ على السؤال الخالد، السابق الذكر، تقدّمت بموقف قاطع شكّل، في الوقت نفسه، ردّاً على بربرا ليف. ففي مناسبة الاحتفال بـ “يوم الشهيد” قال السيد حسن نصرالله إنّ الأميركيين يعتقدون أنّ سيناريو الفوضى يمكن أن يؤدّي الى إنهاء المقاومة (…) وانّ دعمهم للجيش يهدف الى أن يكون في مواجهة المقاومة. لكن الجيش، قيادةً وضباطاً وجنوداً كلهم يرفضون هذا الموقف بالمطلق. يحقّ لنا نحن كجزء كبير من الشعب أن نطالب برئيس للجمهورية لا يطعن المقاومة في الظهر”.
قائد الجيش العماد جوزف عون لم يرفض هذا الموقف القاطع لقائد المقاومة. السكوت، بلغة القانون، قبول. فهل يكون قبوله الضمني مدخلاً الى تكريسه، برضى غالبية وازنة من القوى السياسية المتصارعة، رئيساً مقبلاً ومقبولاً لرئاسة الجمهورية؟
*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى