آخر الكلام
الحزب باقٍ… ومغامرة العقل مستمرة
الياس عشّي
يوم أكبّ أنطون سعاده على وضع الخطوط العريضة لمشروعه النهضوي، كانت مشاهد الموت جوعاً في سفر برلك تتراءى أمامه، ومشانق جمال باشا تجلده، ووعد بلفور واتفاقية سايكس ـ پيكو ينغصان حياته. وكان احتلال الشام، واستشهاد يوسف العظمة في ميسلون يدفعانه أكثرَ في اتجاه الذّهاب إلى مغامرة عقلية تنهي الدجل الفكري السائد في أمّته، وتضع حدّاً للخرافة، والوهم، والتعصّب، والجهل، والضعف، والتبعية التي أدّت، في ما بعد، إلى تمرير سايكس ـ پيكو، وتفتيت الأمة السورية؛ وأدّت، وهو الأسوأ، إلى تحويل فلسطين إلى بيئة حاضنة لليهود.
نعم… كان إعلان سعاده عن قيام حزب يحمل المبادئ الأساس، ومبادئ إصلاحية، مغامرة عقلية تبشّر بهدم الهيكل على رؤوس حرّاسه. أقول: مغامرة عقلية لأنّ سعاده :
أوّلاً: ربط الأسباب بالنتائج .
ثانياً: طرح أسئلة وأجاب عنها .
ثالثاً: قدّم الحجج والبراهين.
وهكذا بدأ الإعداد لإنسان جديد، سيقلب المعادلات السائدة عبر مساحات تاريخية طويلة.
لم يتردّد سعاده في الذَهاب إلى أقصى درجات الالتزام بقسم الزعامة، فأعلن على الملأ قيام حزب سياسي يعيد للأمة السورية نبضها، وحضورها التاريخي، وشخصيتها المستقلة، ووحدتها.
في تلك اللحظة بدأت المغامرة العقلية تأخذ شكل التحدّي بين المتوارث والحداثة، بين التقليد والإبداع، بين العقل والغريزة، بين التراكمات الطائفية والعصبية القومية، بين الأنا ونحن.
بل في تلك اللحظة بدأ الإعداد، من قبل يهود الداخل ويهود الخارج، للقضاء على تلك المغامرة، تماماً كما حدث لسقراط وابن المقفع والحلّاج من قبلُ، وتماماً كما سيحدث للزعيم سعاده بعد سبعة عشر عاماً من تأسيسه للحزب السوري القومي الاجتماعي. رجال كهؤلاء لا يجيدون المساومة، ولا يتنازلون عن أفكارهم، ولا يدلّسون، ولا يطأطئون الرأس، ولا يسكتون على ظلم .
مثل هؤلاء جزاؤهم القتل… وهذا ما حدث.
واليوم، وبعد مرور تسعين عاماً على ولادة الحزب السوري القومي الاجتماعي، وثلاثة وسبعين على اغتيال المؤسّس، ما زالت المغامرة مستمرة، شأنها شأن كلّ المغامرات العقلية التي تحرّك البحيرات الساكنة، وتعيد ترتيب الأشياء من جديد.
صدقوني… لم تستطع حملات تخوين الحزب، ولا السجون، ولا تشريد أعضائه، ولا محاولات تفكيكه من الداخل، أن ينالوا من حزبنا الذي نحتفل اليوم بذكرى تأسيسه، ودخوله العقد التاسع من عمره،
الحزب باق، والمغامرة مستمرّة…