16 تشرين: التاريخ لم ينته… التاريخ ما يزال يكتب
ناصر قنديل
– تحتفل سورية وحزب البعث العربي الاشتراكي، ويحتفل الحزب السوري القومي الإجتماعي، في مصادفة تاريخية جميلة في يوم واحد بذكرى ذات طابع تأسيسي، حيث في هذا اليوم قبل أكثر من خمسين عاماً أطلق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حركته التصحيحية داخل حزب البعث، التي أسست لاستقرار ورفعة سورية وبناء الدولة الوطنية القوية فيها، وحماية مرتكزات الأمن القومي عبرها. وفي هذا اليوم قبل تسعين عاماً أطلق الفيلسوف والمفكر والمناضل أنطون سعاده مشروع حزبه للنهضة القومية وأسماه بالحزب السوري القومي الاجتماعي، محدداً أهدافه بوحدة الأراضي السورية ووحدة مجتمعها، ورفض تفكيكها إلى كيانات وفقاً لتقسيمات اتفاقية سايكس بيكو، ومواجهة تحويلها الى كيانات مفخخة بالنزاعات الطائفية الجاهزة للحروب الأهلية، وبالتوازي رفض مضمون ما جاء في وعد بلفور بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، ومقاومة الغزوة الصهيونية الاستيطانية ومشروع انتزاع فلسطين من قلب الأمة، والدعوة لقيام دولة مدنية قوامها المؤسسات وأساسها المواطنة.
– خلال ثلاثة عقود ونيّف، بدأت مع تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين، وإعلان نهاية الحرب الباردة وبدء سيادة الأحادية الأميركية على العالم، حدث أمران، الأول تجسّد بشنّ حروب متعددة الأشكال والألوان على منطقتنا وشعوبنا، حروب إسرائيلية مباشرة كان لبنان وفلسطين وسورية أبرز ساحاتها، وحروب أميركية مباشرة كان العراق وسورية أبرز ساحاتها، وحروب بالوكالة نفذتها الجماعات الإرهابية كانت سورية ولبنان والعراق أبرز ساحاتها، وتمثل الثاني بحرب فكرية ثقافية إعلامية كان عنوانها إعلان نهاية التاريخ، لأن البشرية دخلت العصر الأميركي، وهو عصر سقوط العقائد والقضايا، وانطلاق مسار جديد للبشرية عنوانه التنافس على الرفاه، وخلال ثلاثة عقود ونيّف جاءت النتائج تقول، أولاً إن الحروب الأميركية الإسرائيلية انتهت بفشل ذريع في محاولة إسقاط العقائد والقضايا والهويات، ثانياً أن التاريخ لم ينته، بل هو ما يزال يكتب كل يوم على قاعدة الصراع.
– ميزة احتفالات حزبين كبيرين من أحزاب الصراع القومي، هي تذكير بالعقائد والقضايا والهويات التي ثبت انها حيّة لا تموت، وأنها تأتي في زمن يثبت معه أن الذي يسود في منطقتنا هو عصر المقاومة التي تنبض في فلسطين دماً ناطقاً بالحياة، والتي تزهر بانتصاراتها في لبنان والعراق وسورية، والأهم أنها تأتي بعدما أفلس المشروع الذي أراد حكم العالم قبل ثلاثة عقود ونيّف مع سقوط النص الذي قدّمه للبشرية تحت عنوان، نهاية التاريخ، ومعادلة أن الزمن زمن سيارة اللكزس لا شجرة الزيتون، أي الرفاه لا القضايا والعقائد والهويات. فها هو الرئيس الفرنسي يقول لشعبه اليوم، تحمّلوا خشونة العيش وفقدان الرفاه لأن الحرية قضية تستحق أن ندفع ثمنها، وها هو الرئيس الأميركي يعلن أن ما يسمّيه حلف الديمقراطية في العالم مستعدّ لتحمل تبعات خياراته حرباً وسلماً للدفاع عن الأوطان والهويات، ويقدّم القتال الذي يخوضه الأوكرانيون مثالاً للبطولة الوطنية. وهذه اللغة هي اللغة ذاتها التي كان يتّهمنا الذين يهتفون بها اليوم بأنها لغة خشبية، فات زمانها، ويحاول اليوم استعارتها منا، متمسكاً بأن روسيا تخوض حرب أشجار زيتونها وأن أوكرانيا تخوض حرب أشجار زيتونها، بما ترمز اليه شجرة الزيتون من التاريخ والهوية، وأن سيارة اللكزس ترف مؤجل لا يجوز طلبه على حساب القضايا. وهذا هو رد قادة الغرب على الشعوب التي تطلب تسوية تعيد الغاز الروسي الرخيص اليها، ولو على حساب دعم أوكرانيا ومواجهة روسيا، فننتبه بسرعة أنها لغتنا التي شيطونها ووصفوها بالبائدة والخشبية، وها هم يحاولون سرقتها اليوم، بينما هم عملياً يعترفون بصواب ما ذهبنا إليه في قلب مواجهتنا لهم.
– احتفال البعث والقوميّ بالتأسيس، ردّ اعتبار لمفاهيم تعرّضت للكثير من التجريح والهجوم ومحاولات الشيطنة والتدمير، رد اعتبار تقوله الوقائع اليومية للصراع، لكن يقوله أكثر اعتراف المشروع الغربي بصوابها، وسعيه الحثيث لاستعارتها ليخوض بها حروبه، وليس أدلّ على حقيقة الصراع مما يجري في فلسطين، ولا أهم مما رآه بصورة مبكرة أنطون سعاده وحافظ الأسد، عظيمان من بلادي فهما قانون الصراع وأسس كل منهما لمشروع النهضة تحت عنوان الدولة القومية، التي لا يمكن أن تكون طائفية، ولا يمكن أن تكون ثمرة للتفتيت، وفق معادلة، اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور ولدا معاً، ولا يموت أحدهما إلا بموت الآخر، وما تحتاجه منطقتنا وشعوبنا اليوم هو إعادة إحياء لهذا المشروع الجامع بتقديم أفكار تجديدية، تستطيع محاكاة الواقع دون الاستسلام لواقع التقسيم والاحتلال، تملك خريطة طريق للوحدة وللخروج من الطائفية وتصعيد المقاومة، قادرة على استقطاب الشرائح الخائفة من الضياع في بحر الوحدة، أو من التلوّن بلون من ألوان قوى المقاومة، أو من فقدان الخصوصيّة، والأجوبة مطلوبة من حزبين تاريخيين عريقين في الصراع، لعبا أدواراً تاريخية منذ التأسيس في تقديم الأجوبة الفذة على الأسئلة الصعبة، وتربطهما بحزب المقاومة الأكبر اليوم الذي يمثله حزب الله علاقة شراكة دم وقضية، ليشكل هذا الحزبان مع حزب الله ثالوثاً منتجاً للفكر الجديد، فيتسعيد الصراع ألقاّ ميّز مراحل الصعود لكل منهم، وشكل قيمة مضافة في مسيرة منطقتنا وشعوبها عند التصدّي الفكري وليس الميداني فقط للمهام والقضايا.