الأسطورة لولا دي سيلفا يعود من جديد!
} د. محمد سيد أحمد
قبل الحديث عن الأسطورة لولا دي سيلفا الرئيس التاريخي للبرازيل والذي صعد لسدة الحكم لأول مرة في يناير 2003 وأحدث معجزة حقيقية بإنقاذ بلاده من شبح الإفلاس والصعود بها إلى مصاف الاقتصاديات الواعدة، تجب الإشارة السريعة لوضع البرازيل قبل تولي دي سيلفا الحكم…
ففي مطلع الألفية الثالثة كانت البرازيل تعاني من مشكلات عديدة، فعلى المستوى الاقتصادي حدث انخفاض كبير لقيمة الريال البرازيلي مقابل الدولار الأميركي، وارتفعت نسبة التضخم، وزاد مستوى الدين العام سواء الخارجي أو الداخلي، وكانت البرازيل قد لجأت لصندوق النقد الدولي في الثمانينيات واقترضت منه أموالاً جديدة لتسديد القروض القديمة التي عجزت عن سدادها، حيث قامت الحكومة البرازيلية بين عامي 1985 و1989 بسداد 148 مليار دولار ديون خارجية منها 90 مليار دولار فوائد للقروض الأجنبية، وخلال هذه الفترة تمّ نقل الثروة الوطنية خارج البلاد عبر بعض رجال الأعمال، مما زاد الوضع الاقتصادي سوءاً، وهو ما أدّى لأزمة ثقة في الاقتصاد وتراجع في معدلات النمو، بالإضافة إلى مشكلة النقص الحادّ في توصيل الكهرباء إلى مساحات شاسعة من البلاد، وهو ما عاق مشروعات التنمية الزراعية والصناعية بشكل كبير.
وعلى المستوى الاجتماعي عانت البرازيل من مشكلات حادة مثل الفقر والبطالة وانتشار الجريمة خاصة تجارة المخدرات والتسرّب من التعليم وتردّي أحوال المدارس بشكل عام. هذا بالطبع بخلاف التفاوت الطبقي الحادّ والفرز الاجتماعي بين الأغنياء (غنى فاحش) والفقراء (فقر مدقع)، حيث يشكل الأغنياء شريحة محدودة مقابل الفقراء الذين يشكلون الغالبية العظمى من المواطنين، وبذلك غابت العدالة الاجتماعية، ويمكننا القول إنّ البرازيل طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات كانت تعاني من أزمات متلاحقة كانت نتيجتها تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين وإلغاء الدعم مما جعل الملايين يهبطون تحت خط الفقر. هذا جزء من واقع المجتمع البرازيلي عشية صعود لولا دي سيلفا لسدة الحكم.
من هو الأسطورة لولا دي سيلفا صانع المعجزة ومنقذ البرازيل وصانع نهضتها الحديثة؟ ولد دي سيلفا في 27 أكتوبر 1945 لأسرة فقيرة أصلها من الشمال الشرقي للبرازيل مكونة من 7 أبناء، وكانت طفولته قاسية حيث سافر والده وهو لم يكمل أسبوعين مع ابنة عمه إلى ساو باولو للبحث عن عمل وانقطعت أخباره واكتشفوا بعد ذلك أنه تزوّج من ابنة عمه وترك مسؤولية الأسرة إلى زوجته، التي اضطرت للسفر مع أبنائها إلى ساو باولو وأقامت في غرفة واحدة في منطقة فقيرة في المدينة وبدأت في العمل لإعالة أسرتها الكبيرة، واضطر دي سيلفا للتوقف عن التعليم في سن العاشرة بسبب الفقر الشديد والظروف الصعبة التي تمرّ بها العائلة، وخرج لسوق العمل مبكراً حيث عمل كماسح للأحذية، ثم صبيّ في محطة وقود، ثم حرفي في ورشة، ثم ميكانيكي لإصلاح السيارات، ثم بائع خضراوات، لكن هذه الظروف صنعت منه رجلاً قوياً، وانتهى به الحال كمتخصص في التعدين بعد التحاقه بمعمل «فيس ماترا»، وقد تعرّض دي سيلفا لحادثة وعمره 19 عاماً أثناء عمله في مصنع قطع غيار سيارات أدّت إلى فقدانه خنصر يده اليسرى، وكان ذلك بسبب إهمال صاحب المصنع، وهو ما جعل دي سيلفا يتجه للعمل النقابي دفاعاً عن العمال، حيث انضمّ لاتحاد نقابة العمال، واستطاع أن يحتلّ منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد في عام 1967، ثم أصبح رئيساً للنقابة في عام 1978 وكانت النقابة تضمّ ما يقرب من 100 ألف عامل في معظم مرافق مصانع السيارات في البرازيل.
أما عن تاريخه السياسي وطريقه لمقعد الرئاسة فقد بدأ في عام 1980 أثناء إضراب للمصانع في أطراف مدينة ساو باولو في فترة سيطرة الجيش على الحكومة، حيث أسّس دي سيلفا أول حزب يساري للعمال في البرازيل، وقام بقيادة الإضراب ضدّ الحكومة فتمّ احتجازه لمدة ثلاثين يوماً، وفي عام 1981 حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن ثلاث سنوات ونصف بتهمة التحريض، ولكن أطلق سراحه في 1982، وفي العام نفسه شارك في أول انتخابات لحكومة ساو باولو لكنه خسر، وفي عام 1986 انتخب نائباً عن ولاية ساو باولو، وفي 1988 شارك في صياغة الدستور، وفي 1989 عقدت أول انتخابات رئاسية مباشرة منذ الانقلاب العسكري في 1964 ورشح نفسه للرئاسة لكنه خسر، وفي عام 1994 رشح نفسه للرئاسة مرة ثانية لكنه خسر، وفي عام 1998 رشح نفسه للمرة الثالثة وخسر أيضاً، وفي أكتوبر 2002 تمّ انتخاب دي سيلفا رئيساً للجمهورية بعد أن حصل على أكثر من 51 مليون صوت بنسبة 62% من إجمالي الأصوات ليصبح دي سيلفا أول رئيس يساري منتخب منذ إنشاء جمهورية البرازيل في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1889.
وتمكن دي سيلفا من إحداث نهضة حقيقية بالتركيز على الصناعة والتعدين والزراعة والتعليم، وأطلق الرجل كلمته الشهيرة «لا بدّ أن نعتمد على أنفسنا وبسواعد أهلنا فاللجوء إلى الآخر سيدمّر بلداننا». وحاول دي سيلفا طمأنة رجال الأعمال فلم يتجه لتأميمهم، بل قال «التقشف ليس أنّ أفقر الجميع بل هو أن تستغني الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء»، ثم قدّم لهم تسهيلات كبيرة في الاستثمار ساعدتهم في فتح أسواق جديدة، وبعد ثلاث سنوات فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي بأموالهم وودائعهم وجاء معهم مليون ونصف أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل، وخلال فترته الرئاسية الأولى سدّد دي سيلفا كلّ مديونية صندوق النقد الدولي، بل إنّ الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار أثناء الأزمة العقارية العالمية في 2008، وأعيد انتخاب دي سيلفا في 2006 لولاية جديدة، وعند انتهاء ولايته في 2010 طلب منه الشعب أن يستمرّ ويعدّل الدستور، لكنه رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة «البرازيل ستنجب مليون لولا دي سيلفا ولكنها تملك دستوراً واحداً». وبعد 12 عاماً من تركه للسلطة يعود دي سيلفا من جديد بعد إعادة انتخابه، وبعد تعرّضه للسجن نتيجة اتهامه في قضية فساد في عام 2018، قضى على أثرها 19 شهراً في السجن قبل إطلاق سراحه من قبل المحكمة الفيدرالية العليا، التي ألغت في عام 2021 إدانته نظراً لارتكاب أخطاء في المحاكمة وافتقار القاضي سيرجيو مورو إلى النزاهة.
وبالطبع تأتي عودة لولا دي سيلفا اليوم في ظلّ ظروف أصعب من تلك التي شهدتها البرازيل قبل ولايته الأولى في عام 2002، فهناك ركود اقتصادي كبير أغرق الملايين من جديد في براثن الفقر، وأدّى إلى ارتفاع الإنفاق المالي ونشوء حالة من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، وأصبحت البرازيل بائسة ومنهكة بعد وباء كوفيد 19 الذي أوْدى بحياة أكثر من 685 ألف شخص، فهل يستطيع لولا دي سيلفا إنقاذ البرازيل من جديد، خاصة أنّ الرجل يمتلك تجربة ثرية وخبرة كبيرة ورؤية ومنهجاً تراكمت عبر سنين طويلة لتؤكد أنّ الزعماء لا يولدون من فراغ بل عبر تجربة إنسانية فريدة يمكن استثمارها لصالح بلدانهم، فهل يفعلها لولا دي سيلفا، هذا ما ينتظره كلّ أحرار العالم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.