79 عاماً على استقلال لبنان… أين نحن من ثقافة الاستقلال؟
} معن بشور
يستقبل اللبنانيون العيد التاسع والسبعين للاستقلال وهم يتابعون الاتصالات الجارية بين عواصم الإقليم والعالم حول لبنان، مصيراً وحصاراً ورئيساً وحتى دستوراً، لا بدّ أنّ بعضهم يتباهى بعلاقته بهذه العاصمة أو تلك، ويستهلّ كلّ تصريحاته بالدعوة إلى التريث فيما ستصل إليه مداولات “الأمم” بشأن “الأمّة اللبنانية”.
وتزداد المفارقة اتساعاً حين يلاحظ اللبنانيون، ومن حولهم العالم كله، أنّ في لبنان مشهدين متناقضين أحدهما معيب يتمثل بهذا التدخل الفاضح في شؤون لبنان السياسية والاقتصادية والنقدية والغذائية، وثانيهما مدعاة للاعتزاز هو هذه المقاومة الباسلة التي لم تنجح في تحرير معظم الأرض اللبنانية وتحصين لبنان من العدوان الصهيوني فحسب، بل نجحت في انتزاع حقّ كان محرماً على اللبنانيين منذ الاستقلال، وهو حقهم في استخراج ثروتهم النفطية والغازية، بل مشهد يشير إلى مدى وهن الاستقلال اللبناني أمام التدخلات الخارجية، ومشهد آخر يشي بمدى مناعة لبنان بوجه المطامع الصهيونية في أرضه ومياهه وموارده.
قد يعطي بعض اللبنانيين تفسيرات عديدة لهذه الهشاشة في استقلال دولتهم التي سمحت على مدى عقود، بهذا الحجم من التدخلات الأجنبية في شؤونهم الداخلية، بعضهم يتصل بطبيعة النظام الطائفي الذي، كان ولا يزال، بوابة عبور هذه التدخلات إلى عمق الحياة اللبنانية، وبعضها يتصل بطبيعة النظام الاقتصادي الاحتكاري الريعي الذي، كان ولا يزال، المدخل إلى ارتهان لبنان اقتصادياً للخارج، فيرتبط غذاؤه وكهرباؤه وماؤه ودواؤه بهذه الإملاءات، لكن قلّة هم الذين يتوقفون أمام ضعف “الاستقلال الثقافي” في لبنان والمتمثّل تحديداً بضعف ثقافة الاستقلال بين اللبنانيين.
فثقافة الاستقلال تبدأ أولاّ من إسقاط ذلك الانطباع الرائج، أو المروّج له، بين اللبنانيين بأنّ استقلالهم جاء نتيجة صراع بريطاني ـ فرنسي أثر الحرب العالمية الثانية، وأنّ ما رأيناه مجرّد “مسرحية” شارك فيها ساسة لبنانيون مع المندوب البريطاني الجنرال سبيرس لإخراج النفوذ الفرنسي من لبنان، وهو انطباع ظالم يتجاهل دماء الشهداء اللبنانيين الذين ارتقوا في مواجهة الاستعمار الفرنسي منذ عشرينيات القرن الماضي، سواء من أبناء راشيا ووادي التيم وبعلبك والهرمل وصولاً إلى بشامون وشهيدها سعيد فخر الدين، أو طرابلس حيث ارتقى 14 طالباً في شارع المصارف بقنابل الدبابات الفرنسية ومعهم 44 جريحاً، أو عدد من الشهداء بين طلاب ومناضلين في صيدا التي أصاب رصاص المحتلّ الفرنسي منها كتف الشهيد القائد معروف سعد.
وثقافة الاستقلال هي ثقافة الوحدة بين اللبنانيين، لأنّ المحتلّ ما تسرّب يوماً، قديمه وجديده، المباشر منه وغير المباشر، إلى لبنان إلاّ من ثغرة الانقسام الطائفي والمذهبي، وما نجح اللبنانيون في التغلب على الاحتلال والاستعمار إلاّ حين توحدوا من وادي خالد إلى الناقورة، واتحدت كلمتهم، جماعات وأحزاباً ومناطق وبيئات، فالاستقلالي اللبناني هو الوحدوي اللبناني، قولاً وفعلاً، نهجاً وممارسة، ومن لم يكن وحدوياً لا يمكن أن يكون استقلالياً.
وثقافة الاستقلال في لبنان هي ثقافة التحرر من الارتهان للخارج، فمن كان قراره مرتهناً لهذه الدولة أو ذاك النظام، يصعب عليه أن يكون مستقلاً في قراره، بل يصعب عليه أن يعيّر الآخر في استقلاليته، فكلّ ارتهان للخارج هو طعنة للاستقلال، وكل استقلال حقيقي هو الذي يحرّر اللبنانيين من الارتهان.
وثقافة الاستقلال هي ثقافة المقاومة، لأنّ استقلال لبنان ليس مهدّداً بجيوش تحتلّ أرضه أو قوات تتوغل في مدنه وجباله وسهوله فحسب، بل هو خطر مستمرّ يتهدّد كلّ جوانب الحياة اللبنانية، السياسي منها والاقتصادي والثقافي والتربوي والمعيشي، ناهيك عن تهديد أرضه وموارده الطبيعية على أنواعها، والاستقلال هنا لا يتحقق إلاّ إذا تحصّن بمقاومة شاملة لكلّ هذه الجوانب، تحمل السلاح حين يقتضي الأمر، وتمتطي كافة أشكال المقاومة الأخرى لمواجهة أيّ انتهاك لاستقلال الوطن والشعب والإرادة.
وثقافة الاستقلال هي ثقافة التمسك برسالة لبنان في بيئته العربية وإقليمه الحضاري، وعالمه الإنساني، وهي ثقافة أجادها لبنانيون في علاقتهم بأشقائهم العرب، كما على المستوى الإقليمي والدولي، وكلّ محاولة لتعطيل هذا الدور اللبناني المتكامل مع إخوانه العرب، والمنفتح على دول الجدار الإقليمي، والمساهم في النهضة الإنسانية، إنما تسعى إلى ضرب الاستقلال اللبناني في رسالته ودوره.
وثقافة الاستقلال هي ثقافة الكرامة الوطنية والإنسانية التي ترفض الخنوع والخضوع للأجنبي، أيّاً كان شكل هذا الخنوع والخضوع، وهي ثقافة التعامل مع الأجنبي على قاعدة احترام النفس أولاً، واحترام المصالح المشتركة والسيادة الوطنية.
على مدى العقود الماضية حاول الاستقلاليون الحقيقيون أن يشيعوا ثقافة الاستقلال بكلّ جوانبها، مقدّمين لها التضحيات الجسيمة، والأفكار الرائدة، وأطر العمل المتطوّرة، وكانت هذه الثقافة ودعاتها يواجهون بحرب متعدّدة الأشكال لأنها تدرك أنّ مصالح أصحاب هذه الحرب مرهونة ببقاء ما خلّفه الاستعمار في بلادنا من آليات…
صحيح أنّ جنود الاستعمار الفرنسي قد رحلوا في 31/12/1946، وأنّ استقلال لبنان الرسمي قد تحقّق قبل ذلك في 23/11/1943، لكن بقايا هذا الاستعمار وأنظمته وتشريعاته وعلاقاته ما زالت جاثمة على صدر اللبنانيين الذين يتساءلون بحسرة وألم “متى يستقلّ لبنان نهائياً”؟