بين مونديالين…
منجد شريف
في عِز الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الاشتباكات المتجددة هي الخبز اليومي، بين الجميع دون استثناء، ولكن كان العقل التحليلي يعمل بخلاف أبناء ذلك الجيل، وكانت التساؤلات جلها عن غياب الدولة بكلّ مكوناتها، حتى إشارات السير كانت حلماً في حينها، وحلّت مكانها حواجز لقوات الردع العربية السورية، سُمّيت ردع، لتردع أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض، وذلك ضمن أحد مكونات الحدود الاستعمارية لخارطة سايكس ـ بيكو.
كنا نتوق لبارقة أمل تعيد السلام والأمن والأمان، لنعرف طعم هذه النّعم بالنسبة لأطفال ولدوا في عز الحرب الأهلية، فكانت نشرات الأخبار “مُزدانة” بأخبار الاشتباكات المسلحة بين القوى المتصارعة، بمسمّياتها المختلفة، عدا عن أخبار القتل والفوضى والتشليح، والانفجارات… كانت البلاد تمرّ بحفلة جنون لا سابقة لها، فيما الصغار يحلمون بإشارة السير التي تضيء الأحمر والأخضر والأصفر، تيمّناً بما كان يُعرض في الأفلام العربية والأجنبية .
انسحبت الحرب حتى على أساليب اللعب بين الأطفال، فصارت لعبة الحرب بدل عسكر وحرامية، وصارت التسميات تشبه تلك التي اعتمدها أغلب مقاتلي الأحزاب كأسماء حركية. ولا صوت يعلو فوق صوت المعارك، وصورة الوطن الطبيعي المتعافي غير متوقعة نظراً للواقع المتردّي وانتشار كلّ “الجيوش” على أرض الوطن باستثناء الجيش الوطني الذي تمزق بين خطين سياسيين متوازيين وأحياناً أكثر من ذلك، وتزامنت تلك المرحلة مع كأس العالم للعام ١٩٨٢، فكان عرض المباريات مرهوناً بساعات التقنين للتيار الكهربائي، إذ لم تكن ظاهرة مولدات الاشتراكات الخاصة موجودة ومنتشرة كما هي اليوم، وبالتالي من يوفق بأن يكون أحد جيرانه يملك تلفزيوناً بالأبيض والأسود ويعمل على بطارية السيارة فإنّ حظه كبير جداً، والمحظوظ الأكبر إذا كان لدى جاره مولد كهربائي صغير يمكّنه من تشغيل التلفاز الملوّن، فعندها يضمن مشاهدة المونديال بالألوان.
وسط كلّ ذلك كانت الحرب مُستعرة، وأخبار المعارك والقصف مستمرة دون هوادة، كان بالقرب منا مركز لأحد الأحزاب، وفي القاطع الثاني مركز لحزب آخر، وعندما تشتبك الدول الداعمة لكلا الحزبين، تتمّ الترجمة بالاشتباك عندنا، فتدور الاشتباكات الطاحنة التي تستعمل فيها كلّ أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، فيهرع السكان إما للخروج من المنطقة أو النزول الى الملاجئ ريثما تتوقف الاشتباكات، ومن كان حظه كبيراً تقتصر خسائره على الزجاج الخارجي، أم من كان حظه سيئاً فتصيب منزله إحدى القذائف ويلتهمه الحريق، ويكون بعدها عوضه على الله.
كانت حرباً مؤلمة جداً، لأنّ طفولة ترعرعت وسط كلّ ذلك الدمار والخراب، حتى دهاليز المسلحين صارت طريقاً بين المباني المختلفة لتوخي الرصاص الطائش، وكانت أكبر الأحلام أن يعمّ السلام بين جميع الأفرقاء ليستعيد البلد عافيته، وأمنه وأمانه، وكان ترصد لأيّ حدث خارجي مدعاة لاهتمام الجميع…
لم يكن ينقص ذلك المشهد إلا ترصّد الأخبار العاجلة حول الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان، وصولاً إلى العاصمة بيروت، وكانت أول عاصمة عربية تحتلها “إسرائيل” في تاريخها (بعد القدس طبعاً)، وكانت طائرات العدو تدكّ معاقل القوى الفلسطينية على اختلاف مسمّياتها، والطائرات تضرب صبرا وشاتيلا، والناس تهرع إما بالهروب خارج المدينة او الصمود في الملاجئ، أو البقاء في البيوت بانتظار القدر، بينما يقبع كثيرون تحت القصف “الإسرائيلي” يتحيّنون الفرصة لأيّ تحرك عربي غربي عالمي أممي، فإذ بنشرات الأخبار تذيع نزول الجماهير في الجزائر للتظاهر فظنّ اللبنانيون أنها مظاهرة داعمة للبنان فيما هو تحت القصف جراء الاجتياح “الإسرائيلي”، وبعدما تنفس اللبنانيون الصعداء فوجئوا بأنها مظاهرة لصالح المنتخب الجزائري الذي سجل هدفاً في مرمى المنتخب الإنكليزي، فيا لها من خيبة…
اليوم صار مفهوماً ما حصل في حينها، حيث أنّ خارطة سايكس بيكو فعلت فعلها لعزل شعبنا عن بعضه البعض، وصار كلّ كانتون يُسمّى بمضامين استعمارية، مفصولاً عن البقية.
لكلّ دولة مشاكلها التي تعنيها وتسعى لإيجاد الحلول لها، وهو الهدف الأساسي من تلك الحدود الاستعمارية، لكي يبقى الاستعمار حاجة لشعوب المنطقة، ولم تكن احتفالية الجزائر بالهدف في مرمى المنتخب الانكليزي إلا التعبير الصارخ عما قصده المستعمر عندما قسّم مناطق النفوذ للسلطنة العثمانية الى دول وكيانات مستقلة.
وها هو اليوم مونديال العام ٢٠٢٢، يبدأ في قطر، وقد أخذ التحضير له وقتاً طويلاً، وبذخ الكثير من المال من أجل أن توافق الملاعب القطرية شروط الفيفا. هذا في الوقت الذي يقبع فيه لبنان تحت وطأة أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، وتنوء الغالبية من شعبه تحت خط الفقر والعجز عن تأمين أبسط مقومات الحياة اليومية، وكلّ ذلك بسبب التقسيم الجغرافي لسايكس ـ بيكو، والذي جعل هذا التفاوت بين أبناء البلاد العربية، وخلق بينهم هوة طبقية، بينما لولا تلك الخارطة، لكان اقتصاد البلاد العربية اقتصاداً واحداً ولا مجال للأزمات وحتى لو حاول الآخرون افتعالها، لأننا منطقة غنية بالموارد، ولكن هيهات أن تمدّ لنا يد العون قبل الكلمة العليا من الصدر الأعظم الجديد المتربع حتى الآن على ما يسمّى بالأحادية القطبية، فبين مونديال العام ١٩٨٢ والمونديال الحالي، تتجدّد الخيبة عند اللبنانيين بأن تمدّ لهم يد العون قبل صدور الفرمان الدولي لفك الأزمة، فهنيئاً لكلّ العرب بإنجاز المونديال وما يتخلله من وجود لمراسلي قنوات العدو على أرضه، وما بذخ من أموال، بينما لبنان يتعرّض لأسوأ اجتياح اقتصادي في تاريخه…