نتنياهو يسلم الراية لبن غفير معلناً سقوط الكيان
ناصر قنديل
ــ يجب أن يخرس الذين يتحدّثون صباح مساء عن موجة تطبيع تجتاح العالم العربي، ويشكل دعاة المقاومة الصوت النشاز فيها، فيكفي أن يتقن هؤلاء القراءة أو أن يجيدوا السمع والمشاهدة ويتوقفوا أمام مئات التقارير المكتوبة والمرئية والمسموعة التي تعجّ بها وسائل الإعلام الإسرائيلية، حول انتقال الاهتمام بمونديال قطر من الاحتفال بالتطبيع إلى نعيه ودفنه، والأمر لا علاقة له بموقف السلطات القطرية التي منحت لكل وسائل الإعلام الإسرائيلية كل التسهيلات اللازمة، كما تقول التقارير الإعلامية التي تتحدث عن مفاجأة كارثية كانت بانتظار المراسلين الذين أوفدتهم وسائل الإعلام الإسرائيلية بخلفية إقامة مهرجان احتفالي إلى جانب المونديال عنوانه التطبيع؛ فإذا بها تجد في كل زاوية وكل شارع ومع كل مواطن عربي من المغرب والسعودية ولبنان وقطر والإمارات موقفاً يصل رفضه للتطبيع حد التعامل مع الإسرائيلي كأنه طاعون يجب غسل الأيدي بعد ملامسته، كما علّق أحد هؤلاء المراسلين، من سائق الأجرة الى نادل المطعم الى المشجعين الى العابرين في الشوارع عجزت فرق الإعلام الإسرائيلية عن إيجاد عربي واحد يقبل صورة ودّية مع أعضائها، بل إنها واجهت ما وصفه أحد المراسلين بالذعر والخوف مع مصادرة الهاتف النقال ومحو الصور منه، أو إنزال الراكب في منتصف طريق مهجور وطرده، أو إخراج الفريق من مطعم عنوة ورميه في الشارع. وهذه العلامات التي يهتم بها ويحلل أبعادها الإسرائيليون ويرغب بتجاهلها مروّجو التطبيع من العرب، تقول بما لا يقبل الشك إن زمن التطبيع يحزم حقائبه ويرحل.
ــ بنيامين نتنياهو الذي رافق صفقة القرن ومشاريع التطبيع وطالما تباهى بأنها التعويض الأهم عن المخاوف التي يسببها تنامي المقاومة في فلسطين وتنامي قوتها على حدود فلسطين، يعرف أن ما جرى من ظواهر تطبيع في الخليج كانت صحون المقبلات بانتظار الوجبة الرئيسية التي يمثلها انضمام السعودية إلى خيار التطبيع، ورهان نتنياهو على النتائج الناتجة عن مثل هذا الانضمام عند حدوثه كان الأمل المتبقي لرد الاعتبار لدور الكيان الإقليمي، في ظل تراجع قدرته على انتزاع مكانته الإقليمية بقوة تفوقه العسكري المطلق، ويعرف نتنياهو أن هذا الأمل كان رهن نجاح أميركي بجلب السعودية الى بيت الطاعة، ومقايضة منح الشرعية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان وتجاوز ملف قتل الصحافي جمال الخاشقجي كورقة قوة أميركية للضغط عليه، بقبول السعودية الذهاب الى خطوة متقدمة في مجال التطبيع مع كيان الاحتلال. وبعد التعثر خلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الى السعودية قبل شهور، في ترجمة دعوته السعودية للمشاركة في دمج “اسرائيل” في البيئتين الخليجية والعربية، جاءت أزمة العلاقات الأميركية السعودية الآخذة في التصاعد مع تموضع سعودي في منتصف الطريق بين واشنطن وبكين وموسكو. وجاء الإعلان الأميركي عن منح الحصانة القضائية لولي العهد السعودي، ليدفن نتنياهو آخر أحلامه وآماله.
ــ العودة إلى فلسطين لم تعد خياراً بل صارت قدراً بالنسبة لنتنياهو او لسواه من قادة الكيان، مع سقوط الرهان على موجة تطبيع تشكل تغييراً استراتيجياً تنتج عن انضمام السعودية إلى هذه الموجة. والمشهد البكائي لوسائل الإعلام الإسرائيلية عن كذبة التطبيع يطلق رصاصة الرحمة على هذا الوهم، والعودة إلى فلسطين تعني العودة الى حسابات الصراع التي يعرفها نتنياهو جيداً، وهو من يعلم أنه يكذب عندما يتحدث عن لغة التحدي مع المقاومة، فهو من قبل وقف النار بعد معركة سيف القدس وقوة الردع في الحضيض. وفي ولاياته المتتابعة تحولت المقاومة في غزة من قوة دفاعية الى قوة هجومية تهدّد ثم تفتح النار في سيف القدس. وفي ولاياته المتتابعة امتلكت المقاومة في لبنان صواريخها الدقيقة رغم كثرة كلامه عن استهداف هذه الصواريخ عبر سورية، وعجزه عن تقديم جواب مقنع للداخل الإسرائيلي عن سر عدم استهدافها في لبنان طالما أنه يتفاخر بقوته ويعرف أماكن تخزينها، كما فعل بإظهار صور قال إنها تظهر أماكن مستودعات الصواريخ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولذلك كله يعرف نتنياهو أن الكيان يواجه طريقاً مسدودة إذا قرر العودة الى قواعد الاشتباك التقليدية، ويعرف ان الخسارة محتومة وأن التآكل حتمي.
ــ لأن نتنياهو يعرف كل ذلك كان رهانه الأخير على موجة التطبيع أملا بتغيير قواعد الاشتباك، وخصوصا ديناميكيتها الفلسطينية بتأثير انضمام السعودية، وما تعد به الإسرائيليين اقتصادياً وتفتح أمامهم آفاق الأمل بالبقاء في الكيان، وتعيد إنتاج قوة وسطية في التجمع الصهيوني شكلت تاريخياً قاعدة مشروع “الدولة” و”السياسة”، وبغيابها غاب مشروع “الدولة” لحساب جماعة العقيدة والمستوطنين، وغابت السياسة لحساب مشروع المواجهات الدموية الأهلية، بين الفلسطينيين كسكان أصليين من جهة والمستوطنين من جهة مقابلة، ونتنياهو المدرك لسقوط مشروع “الدولة” وسقوط “السياسة” يعرف محدودية خياراته، فهو الذي تراجع عن التهديد بالانسحاب من اتفاق تقاسم المناطق الاقتصادية مع لبنان وقال إنه سيكتفي بالتعامل معه كما تعامل مع اتفاق أوسلو، لن يجرؤ حتى على فعل ذلك، أي عدم التطبيق، لأنه يعلم العواقب، وهو أكثر من تجنّبها وسعى للواقعية في التعامل معها.
ــ نتنياهو العائد بعد الانتخابات يقرأ سقوط الكيان بصعود كتلة العقيدة الصهيونية والاستيطان، ومعها دعوات التطهير العرقي والتهجير والقتل التي يمثل ايتمار بن غفير نجمها الصاعد، فيقرر رغم إدراكه المواقف الأميركية والأوروبية ومعرفته بتداعيات تسليمه حقيبة الأمن الداخلي، على الأمن الداخلي نفسه، وعلى صورة “إسرائيل” في الخارج ومكانتها بين تشكيلات الرأي العام والمنظمات الحقوقية الغربية، يقدم على الخطوة لأنه يعترف بأن زمن “دولة إسرائيل” قد انتهى، وأن تسليم الراية لتيار المستوطنين والعقائديين، إما أن ينجح بإنتاج معادلة جديدة داخل فلسطين تعيد الفرصة لتوحيد الكيان تحت سقف القوة، وتعيد إنتاج مكانته الإقليمية مجدداً عبر هذه البوابة، اسوة بما حدث في ما يسمونه حرب الاستقلال عام 48، عبر تهجير الفلسطينيين وإقامة مذبحة مفتوحة بحقهم في القدس والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48، أو تؤدي المخاطرة الى مزيد من الانهيار فتعيد الاعتبار للسياسة ومشروع “الدولة”، وفي الحالتين يكون نتنياهو أول من ينتظر لتلقف النتيجة.
ــ في فلسطين تبدأ مرحلة عنوانها لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا صوت إلا للرصاص، ومع بن غفير لا حاجة للفلسطينيين لسلطة محمود عباس وأجهزة أمنه وتنسيقها مع الاحتلال، بل هم يحتاجون فتح وقوات العاصفة وكتائب الأقصى إلى جانب فصائل المقاومة من القسام الى سرايا القدس وعرين الأسود، وكما فعل الدم الفلسطيني فعله في إسقاط الموجة الأولى من التطبيع ومنع الموجة الثانية، سوف يتكفل بإسقاط ما تبقى منها مع نفير المواجهة الذي يبدأ مع تولي بن غفير وزارة الأمن الداخلي، ومحور المقاومة الذي يدرك أن الأمن الوطني والقومي لقواه ودوله لا يمكن تأمينه خارج منطق الصراع مع كيان الاحتلال، يقف حكماً في الخندق ذاته مع شعب فلسطين وقواه المقاومة.