الوكالة الدولية تتهم، وإيران ترد، والغرب يهيج!
د. عدنان منصور*
منذ أربعين عاماً، والبرنامج النووي الإيراني يثير اهتمام دول الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا.
في الخمسينيات من القرن الماضي أطلقت إيران الشاه، برنامجها النووي، بعد أن تم الإعلان عن الاتفاق المقترح للتعاون في مجال البحوث والاستخدامات للطاقة الذرية، تحت رعاية برنامج أيزنهاور: «الذرة من أجل السلام».
عام 1967، تأسس مركز طهران للبحوث الذرية TNRC، بإدارة منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، حيث شاركت فيه الولايات المتحدة، وحكومات غربية.
في عام 1968 وقعت طهران على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية NPT، التي تمت المصادقة عليها عام 1970. في عام 1975، وقعت إيران عقداً مع الولايات لشراء 8 مفاعلات بقيمة 6.4 مليار دولار، على أن تزود واشنطن إيران بالوقود اللازم للتشغيل.
بعد قيام الجمهورية الاسلامية عام 1979، أوقف العمل في مشروع بوشهر، كما قطعت واشنطن من جهتها إمدادات اليورانيوم عالي التخصيب لمركز أبحاث طهران النووية، ما أرغم إيران على إغلاق المفاعل لعدة سنوات.
عام 1987- 1988، وقعت إيران اتفاقاً مع الأرجنتين لتزويدها بوقود اليورانيوم الذي تم تسليمه لطهران عام 1993. الا ان التعاون توقف في ما بعد، نتيجة ضغوط واشنطن على الأرجنتين.
عام 1992، دعت إيران مفتشي الوكالة الدولية لزيارة كافة المواقع والمرافق التي طلبوا زيارتها. وبعد تفقدهم لها، ذكر المدير العام للوكالة الدولية هانس بليكس، أن كافة الانشطة التي شاهدوها، تتفق مع الاستخدام السلمي للطاقة الذرية.
كانت محطة بوشهر أول محطة للطاقة النووية السلمية، أنشئت بمساعدة روسيا وافتتحت رسمياً عام 2011، ووصلت الى كامل طاقتها الإنتاجية عام 2012. سبق ذلك ان صدر عن الحكومة الإيرانية والاتحاد الأوروبي، ووزراء خارجية فرنسا وبريطانيا والمانيا عام 2003، إعلان طهران الذي أبدت فيه إيران عن استعدادها للتعاون مع الوكالة الدولية لتوقيع وتنفيذ البروتوكول الإضافي الذي يتيح التفتيش الفجائي، وتعليق أنشطة التخصيب. في المقابل، وافق الاتحاد الاوروبي على الاعتراف صراحة بحقوق إيران النووية، بضمانات تقدمها لطهران، تسهل لها الحصول على تكنولوجيا حديثة.
عام 2001، وبموجب اتفاق باريس، أعلنت إيران عن وقف طوعي ومؤقت لبرنامج التخصيب. وهذا يعني أنه لن يكون توقفاً دائماً، ولن يكون هناك من مفاوضات في حال أراد الأوروبيون الإنهاء الكامل لأنشطة إيران في مجال دورة الوقود النووي.
عام 2005، أرادت طهران تسريع المفاوضات في هذا الشأن، الا أن الاتحاد الاوروبي رفض القيام بذلك، ما دفع بإيران بعد تولي احمدي نجاد رئاسة الجمهورية، الى فض الأختام عن المعدات لتخصيب اليورانيوم في منشأة أصفهان.
من أجل رفع الشكوك عن برنامجها النووي السلمي، عرضت إيران التصديق على البروتوكول الإضافي الذي يسمح بعمليات تفتيش أكثر صرامة من قبل الوكالة الدولية، وكذلك تشغيل منشآت تخصيب اليورانيوم في نطنز كمركز وقود متعدد الجنسيات.
عرض طهران، رفضته واشنطن التي أصرّت على وقف البرنامج النووي الإيراني، رغم أن طهران، أعلنت مراراً أنها تقوم بتخصيب اليورانيوم بنسبة اقل من %5.
اعتباراً من عام 2006، وبضغط من اميركا وحلفائها الغربيين، أحيل الملف النووي الإيراني الى مجلس الامن، الذي قام بفرض سلسلة من العقوبات القاسية على إيران، عام 2006، و2007، و2008 و2010.
أفضت الى حظر توريد التكنولوجيا ذات الصلة بالطاقة النووية، تجميد أصول شركات ومسؤولين وأفراد، ومنع بيع الأسلحة لإيران، أو تقديم مساعدات تقنية ومالية ذات الصلة. وكذلك تفتيش السفن التي تحمل شحنات وبضائع مشبوهة تتعلق بإيران، ومنع الدول من التعامل مع المصارف الإيرانية، والمصرف المركزي، او السماح لها بفتح فروع لمصارف إيرانية في الخارج.
بالإضافة الى العقوبات الأممية، كانت العقوبات الأميركية الأحادية الجانب التي فرضتها واشنطن على إيران، وألزمت دول العالم بتطبيقها. عقوبات استهدفت استثمارات النفط والبتروكيماويات، والغاز، وصادرات منتجات النفط المكرر، وفرض العقوبات على الأصول المالية لدوائر مرشد الثورة، وإخراج إيران من التعامل مع المنظومة المالية السويفت.
العقوبات الأميركية ألزمت دول العالم على تطبيقها تحت التهديد بفرض العقوبات عليها في حال الامتناع عن الالتزام بها.
عام 2015، وبعد مفاوضات مضنية مع المجموعة 5+1، بددت إيران شكوك الغرب، بتوقيعها على الاتفاق النووي، إلا أن الرئيس الأميركي ترامب طعن الاتفاق،
وانسحب منه عام 2018، فارضاً بعد ذلك رزمة من العقوبات على طهران، لجرها الى طاولة مفاوضات جديدة، وبشروط قاسية مسبقة، بهدف منعها من السعي الى تطوير سلاح نووي، في الوقت الذي كانت فيه أميركا وفرنسا وبريطانيا والمانيا وراء البرنامج النووي «الاسرائيلي»، الذي اتاح لـ»اسرائيل» ان تمتلك ترسانة من الأسلحة النووية تقدر اليوم ب500 رأس نووي من مختلف العيارات. وهي ترسانة كشف عنها عام 1986 الخبير الفني النووي الاسرائيلي مردخاي فعنونو الذي عمل في مفاعل ديمونه لسبع سنوات، وكشف النقاب عن حقيقة المفاعل من خلال حوالي ستين صورة زوّد بها صحيفة الصانداي تايمز البريطانية.
يعرف الغرب الذي يكيل بمكيالين، ان «اسرائيل» هي الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي تمتلك السلاح النووي. وهي التي قامت بأول تجربة نووية في صحراء النقب عام 1966، ثم اتبعتها بتجربة ثانية في المحيط الهندي عام 1979،
بالاشتراك مع نظام جنوب أفريقيا العنصري آنذاك، بالإضافة الى امتلاكها ترسانة من أسلحة الدمار الشامل الكيمائية والبيولوجية. ومع ذلك، لا يجرؤ أي زعيم فيه مهما علا شأنه، أن يطالب بفرض العقوبات على «اسرائيل» التي تتحدّى العالم كله في رفضها الحاسم إخضاع مفاعلها لتفتيش الوكالة الذرية، رغم المطالبة الدولية لحملها على الانضمام للاتفاقية.
الخبير الاسرائيلي العسكري رئيف شيف، كتب في صحيفة هارتس يقول: «من يعتقد ان يتوقع يوماً، التوقيع على معاهدة الأمم المتحدة لحظر انتشار الأسلحة النووية فهو حالم. «اسرائيل» تعتبر أن السلاح النووي هو الركيزة الاساس لسياساتها في فرض وجودها، وتحقيق أهدافها في التوسع، وإقامة «اسرائيل» الكبرى، لتصبح دولة إقليمية كبرى، تهيمن على كامل منطقة الشرق الأوسط».
من جهته، المؤرخ السياسي والدبلوماسي الاميركي روبرت تاكر Robert Tucker، في معرض دفاعه عن «اسرائيل» قال: ما المانع لدى «اسرائيل» من اتباع سياسة الصقور باستخدام الدرع النووية! فامتلاكها لتفوق نووي كاسح، يسمح لها أن تتصرف دون النظر الى العواقب، حتى في ظل معارضة عالمية. فعلى سبيل المثال، غزو لبنان، وتدمير بيروت عام 1982، الذي قاده آرييل شارون، وأدى الى قتل 20 الف شخص معظمهم من المدنيين، مكّن «اسرائيل» من المضي بالحرب لعدة أشهر بفضل التهديد النووي!
«اسرائل» التي تتمرّد ولا تكترث بالغرب، اتبعت سياسة التعتيم والغموض المتعمّد حول عمل واهداف برنامجها النووي. وهي التي أكدت على أنها لن تكون البلد الاول الذي يدخل السلاح النووي في منطقة الشرق الاوسط.
إن صياغة عبارة «لن تكون الأولى»، جاءت في مذكرة تفاهم رئيس وزراء «اسرائيل» ليفي اشكول، وروبرت كومر رئيس الوفد الاميركي خلال المحادثات بين الولايات المتحدة و»اسرائيل» عام 1965، والتي تضمنت تأكيداً على أن «اسرائيل» لن تكون أول من يدخل أسلحة نووية في المنطقة العربية – الاسرائيلية، وليس في الشرق الاوسط، كما روج من قبل.
اليوم، وبعد مراوغة الغرب، وعدم صدقيته، واغتيال ترامب للاتفاق النووي، وبعد الضغوط الاميركية التي مورست على الوكالة الدولية للطاقة الذرية لحملها على اصدار قرارها الأخير الذي يتهم إيران بالاخلال بموجباتها، جاء رد طهران السريع برفع نسبة تخصيب اليورانيوم الى %60. وهي النسبة التي سبق أن أعلن عنها في كانون الاول عام 2021، رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد سلامي، وقال إن إيران لن تعمل على تجاوز نسبة الـ %60 من تخصيب اليورانيوم، حتى ولو لم ترفع اطراف المفاوضات في فيينا عقوباتها. كما أوضح ان برنامج إيران النووي يهدف الى دعم احتياجات الإنتاج الصناعي في البلاد.
رغم «مطاردة» الغرب لبرنامج إيران النووي، وحصاره،وعقوباته التي فاقت كل حدود، ورغم سياسة ازدواجية المعايير، وسياساته المنحازة المقيتة التي يتبعها، لم يستطع أن يكسر ارادة إيران او إخضاعها، أو منعها لتصبح دولة نووية سلمية قادرة مقتدرة، لها مكانتها وأهميتها بين الأمم. لكن، هل ستأخذ واشنطن ومعها الغرب المطواع بهذه الحقيقة، أم ستلجأ في المستقبل القريب الى التهديد وفرض المزيد من العقوبات الشرسة على إيران، وربما أبعد من ذلك، التوجه الى خيار عسكري، واستنزاف إيران، وإن كان عبر الآخرين!
إيران بموجب الاتفاق النووي كانت تخصب اليورانيوم بما نسبته %3.67، وبعد انسحاب واشنطن منه، وصل تخصيبها اليوم الى %60، والآتي أعظم! فمن المسؤول؟!
*وزير الخارجية الأسبق.