أخيرة

نافذة ضوء

الأدب الجديد أدب الرؤية الجديدة والتفكير الجديد والشعور الجديد
‭}‬ يوسف المسمار*

الأدب مـظهـر مـن مـظـاهـر الأمـة يـعـبـّر عـن حـركـة حـياتـها رقـيـاً أو انـحـطـاطـاً.وهـو أيـضـاً شــأن مـن أهـم الشــؤون الـتي تـُعـَبـّـر عـن عـقـلـيـتـهـا وروحـيـتـهـا ونـفـسـيـتـهـا. فإذا كـانـت الأمـة سـليـمـة واعـيـة راقـية، كـان أدبـهـا أدب صـلاح ووعي ورقيّ. وهي عـكـس ذلك تـمامـاً حـيـن تـكـون في حـالة مـن الخـمـول والتخلف والانـحـطـاط حيـث يـكـون إنـتـاجهـا الأدبي أدب تخلّف وانحـطـاط وخـمـول.
وفي حـالـة صراع الحـيـاة والمـوت تـتـألـّق الأمم الحـيّـة الراقية على دروب التـقـدم والـرقي والتـسـامي، في الـوقـت الـذي تـتـقـهـقـر فـيـه الأمـم الهـزيـلة المـيـتـة النـفـسـيـة في مهـاوي التـخـلـف والاضـمحلال والزوال.
وحـيـن تـحـل الكـوارث والـنـوازل بـأمـة مـن الأمـم الحيَّة فإن إنـقـاذهـا لا يـكـون إلّا بـاعـتـمـاد أدب بـطـولي جـديد، مـؤيـّد بـصحـة عـقـيـدة عـقـليـة راقـيـة مـصارعـة هادفة، تـتـفـجـّر في نـفـوس أدبـائـهـا نـداءات إيـقـاظ، ومـشاعـل هـدايـة وشرارات تحـريـك، وعـواصف انـطـلاق، وانـفـجـارات نهـوض، ومخـطـطات ارتـقـاء، ومـقـاصد انـتـصـار وســمـوّ ومـجـد.
وأتـعـس الأمم هي تـلك التي انـحـطّـت ومـاتـت نـفسيات أبـنـائـها فـانـحـطـت مـشاعـرهم وأمحلت، وتـعـطـلت فـيـهـم العـقـول، وتحجـّـر تـفـكيـرهـم، وراحـوا يستمـدّون من المـقابـر العـفـنـة، ومـن مـخـلفات الأمـوات النـتـنة أصول أدب التـخـلف والهـزائـم والكـوارث الـذي لـم يـتـبلـور في أمـة مـن الأمـم كـما تـبلـور في المجتمعات العـربـية، باسـتـثـناء الشـهـُب التي كانت تـتـألـق هـنا وهـنـاك وهـنـالك من زمن لآخر ثـم تـخـتـفي مـمـا ســاعـد على تجلبب الـرذيلـة بـثـيـاب الفـضـيـلة، والجـهـل بـمـظـهـر الـعـلـم، والبـاطـل بـرداء الحـق، والعـتـمة بانـبـثـاق الفـجـر. فاخـتـلطـت الأمـور، وتـشـابـكـت الصـور والأشـكـال، وضاعـت الحـقـائـق.
وكـان الأدب التـعـس فـيـض النـفـوس التـعـسـة، وتـقـيـؤ وإفـرازات الأدبـاء المتحدرين من بـقـايـا الأقـوام المنقـرضة، الحـامـليـن مـعـهـم الى هـذا العـصـر جـثـث الأمـوات وروائـحـها النـتـنـة وأخـطـار جـراثـيـمـها المـميـتة.
إن أمـتـنا في مـحـنـتهـا الـراهـنة لا ولن يـنـقـذهـا الأدب الـذي كـان في صـلب محـنـتهـا، ولا الأدبـاء الذين كـانوا سـبـبـاً لتـلك المحنة، وساهـمـوا في اشتـدادهـا وتعـاظمها، إلا ّ إذا أحرقوا كـل ما كـتبوه مـن أدب الجهـل والتخـلف الذي كـان في أساس المحنة، وعـملوا على أن يُـولـدوا ولادة جـديـدة متخـلصـين نـهـائـياً مـن مـنـاخ أدب الكـتـب وجنون الخـلـود الأناني الذي شـمـل مـعـظـم أدبـاء اللغة العربية تقريباً.
إن أدب التهـريـج والخـداع الذي اعـتمده وما زال يعـتمده شعـراؤنـا وكـتـابـنا وتوسّموا فـيـه الدافـع الى دروب النـهـوض والتـقـدم، أثـبـت بـما لا يـقـبـل الشـك أنه أدب مـسـلسل الكـوارث والمـحـن. وقـد قادنا ومـا يزال يقودنا الى المزيـد من الانـحلال والانهيار والتـقـهـقـر.
والشـيء المـخـيف أن أدباءنـا لـم يـتـعـظـوا بـما حـدث، ولا هـم مـتـنبّهـون الى ما يحدث وما سوف يحدث، بل هم يستمرون في غيّهم وعلى المنوال نفسه، وكـأن مـا حـدث ويـحـدث لا يـعـنـيـهـم، ولا هـم كانـوا في أساس حـدوثـه.
إن أدبـاً أصـولـه في الخـمـول والاستـسلام والهـروب لا يـصلح لأن يـكـون غـذاءً لأبـنـاء الحـيـاة. لأن أصول أدب الحـيـاة هي دائـماً في الحياة. في فـهـم الحـيـاة، وتـثوير الحـيـاة، وتحسيـن مستوى الحياة والعـمـل على تحـقـيـق أرقى المـرامي وأسمى المـُثـُـل.
أما أدب الأموات الذين نـأكـل مـعـهـم مـن صحـونـهـم، ونـشـرب مـن كـؤوسهـم، ويـنـامـون في سـرائـرنـا، ويـتـحـكّـمـون في تـفـكـيـرنـا وتـصرّفـاتـنا فـقـد حانـت ســاعـة التـخـلـّـص مـنـهـم ودفـنـهم وإحـراق الإرث الرديء الـذي تـركـوه، لأنـهـم لـم يـجـلبـوا على شــعـبـنا سـوى التـضـليـل والذل والتـخـلف والـويـل.
إن الحالة المرضيّة التي مرّت بـها أمـتـنـا، والتي كـانـت سبـباً في ظـهـور أدبـاء التـخـديـر والتـيـئـيس والتعمية والنـفـاق والخوف والهروب والبكاء على الأطلال واستيراد بقايا مخلفات الآداب المنتهية صلاحيتها عند الأمم العدوانيّة المجرمة المتسلّطة على الشعوب الضعيفة أو ما أنتجته من نظريات وآراء وخواطر لتضليلنا وتخديرنا كلما لاحظت أو اكتشفت احتمال بزوغ نهضة في بلادنا، لا تـصـلـح أبـداً لتحـقـيـق نهـضة في بلادنـا لشـعـبـنـا.
كـما أن كـل العـقـاقـيـر المستوردة من نظـريات وأفـكـار ومـفـاهـيـم وخـطـط لا يـمـكـنـها أن تـحـرك عـوامـل النـفسية الأصـيـلة فـينا إذا لـم تـكـن لنـا الثـقـة الكـاملة بنـفـسيـتـنا القادرة على فـهـم مصالح وجودنا، وفـهـم قـضايا حـيـاتـنا، ووضـع مـقـاصـدنا ومـُثـُـلنـا في طـليعة الأمـورالتي يـجـب أن نـجاهـد في سـبـيـلهـا.
إن على جـيـلنـا الحـاضر أن يكون على مسـتوى التـحـدّي وفي طليعة جـيلنـا الأدباء الذين عليهـم أن يكونـوا رواداً في الانطلاق من الإصـالة، وإنـعـاش وإحياء واستــنـبـات كل الفضائل التي تـمـيّـزت بـهـا أمـتـنا، وإيـقـاظ المواهـب والعبقريات، وإزاحـة الويلات النفسية والمادية عن شعبنا، وتكسير قيود العادات والتقاليد الخرافية التي فُـرضت علينا بعوامل الفـتوحات والغـزوات والاجتياحات ليعـود شـعبـنا سليماً مـعـافى في روحيته وفي عقليته وفي نفسيته فـتصفـو مشاعره وأحاسيسه، ويـتـطـهـر تـفـكـيـره، وتـقـوى ذاكـرته، وتـرتـقي تـصـوّراته، وتـتسع نـظـرته، وتسمو غايته فيستـعـيد أدبه القديم الجـيـّد، ويـبـدع الأدب الحـاضـر الأجــود، ويـرســم خـطـط أدب المستقـبـل الذي ليس لارتـقـائـه آفـاق ولا نـهـاياـت.
*باحث وشاعر مقيم في البرازيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى