تركيا واختبار الخيارات الدولية والإقليمية
ناصر قنديل
– منذ أن شكلت تركيا قاعدة الارتكاز في الحرب على سورية، وكانت القوة المركزية التي يحسب لها الحساب في التأثير على مجريات الحرب، حيث بدونها تفقد العناصر الأخرى قدرتها على الوصول الى الجغرافيا السورية والتأثير في مجرى الحرب، من الحشد الأميركي السياسي والدبلوماسي والاستخباري والمالي والتسليحي والإعلامي، والمشاركات العربية فيه، وكذلك حشد عشرات الآلاف من المتطرفين والإرهابيين من أنحاء العالم للقتال في سورية، وموقف تركيا يشكل مفصلاً رئيسياً في مستقبل هذه الحرب، وإذا نظرنا للمكانة التي مثلتها سورية والحرب عليها في الرؤية الأميركية لإعادة صياغة المنطقة وتوازناتها من جهة، والمكانة التي احتلتها سورية في الرؤية التركية لدور إقليمي محوري من جهة أخرى، سوف يظهر موقع الدور التركي في سورية من مستقبل العلاقات التركية الأميركية. وموقع هذا الدور بالمقابل في علاقة تركيا بكل من روسيا وإيران، خصوصاً بعد تموضعهما في سورية بقوة وتمسكهما بثوابت على رأسها الوقوف بلا تردد وراء مشروع الدولة السورية وحقها السيادي ووحدتها الجغرافية.
– منذ انطلاق مسار أستانة قبل سنوات نجحت تركيا بالبقاء على خط الوسط بين كل من روسيا وإيران من جهة وأميركا من جهة مقابلة، ورسمت تركيا خطوط حركتها على إيقاع تحديد لعبة المصالح، فكلما ظهرت فرص لاستعادة خيار الحرب الأميركية كانت تركيا تشجع وتستعد للعودة مجدداً الى الميدان، وكلما بدا أن أميركا عاجزة وان العلاقة مع روسيا وإيران مهددة سياسياً واقتصادياً وربما عسكرياً، كانت تركيا تعيد التموضع تحت سقف مسار أستانة وتطلق الوعود مجدداً، لكن هذه الصورة تغيرت بعد حرب أوكرانيا حيث تظهر الدور الروسي القوي في معادلات الجغرافيا السياسية المحيطة بتركيا من جهة، وحجم الفرص التي يتيحها لأدوار تركية سياسية واقتصادية، لكن بقيت الطموحات التركية بدور عبر سورية حاضرة عبر التلويح المستمرّ بعملية عسكرية تركية في الشمال السوري، تمّت صياغتها بصفتها شبيهة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حتى عقدت قمة طهران ولمست تركيا معادلة الحوافز والموانع، فقدمت لها روسيا وإيران حزمة مكاسب استراتيجية في سوق الغاز، وأكدتا بالمقابل الوقوف وراء الدولة السورية في أي واجهة تركية سورية.
– سرعان ما بدأ الرئيس التركي بعمليات قصف للمواقع الكردية في شمال سورية، وبدأ الحديث مجدداً عن عملية برية، لكن الأحداث الأخيرة التي أوحت أن تركيا على أبواب العملية البرية تعرّضت للاهتزاز مع إعلان الرئيس التركي أنه مستعد لتطبيع العلاقة مع الدولة السورية، ثم أنه مستعد للتراجع عن العملية البرية إذا انسحبت الجماعات الكردية المسلحة من المدن الحدودية وتسلمها الجيش السوري، استجابة لمبادرة روسية بهذا المضمون، لينفتح الباب أمام الحديث عن فرص تسوية كبرى تتضمن تسليماً تركياً بدور الدولة السورية كضامن لأمن الحدود، ووضع الجماعات الكردية التي وضعت كل أوراقها في السلة الأميركية، وأضاعت عشرات الفرص لتفاهم مع الدولة السورية، أمام إحراج كبير لا فرص كثيرة فيه. فالعناد يعني البقاء في مواجهة آلة الحرب التركية دون إسناد سوري او تعاطف روسي وايراني، في ظل وضوح الموقف الأميركي الذي لا يتخطى المواقف الكلامية والنصح بوقف العمل العسكري، وبكل من الحالتين تبدو أيام بقاء سيطرة الجماعات الكردية المسلحة على خط الحدود معدودة، ويبدو معها الكانتون الذي بنته تحت الرعاية الأميركية مهدداً بالزوال، وتبدو تركيا أمام فرصة اتخاذ هذا التحول الذي جعلته عنواناً لأهداف أمنها القومي، معنية بإحداث تحوّل في تموضعها بحجم الإعلان عن زوال مبررات بقائها في سورية، ما يفتح الباب لعلاقات سورية تركية نوعية، من جهة، ويفتح الباب مع زوال الكانتون الكردي، لعلاقات كردية بالدولة السورية وفق معادلات جديدة، ويجعل أيام الاحتلال الأميركي معدودة أيضاً.
– كما كانت البدايات من سورية، تبدو النهايات من سورية، سواء بالنسبة للمنطقة وقوى المقاومة، أو بالنسبة للاعبين الإقليميين الكبار وتركيا أساسية بينهم، أو اللاعبين الدوليين الكبار، الذين تضمهم الجغرافيا السورية وجهاً الى وجه، أو جنباً الى جنب او ظهراً الى ظهر، خصوصاً الأميركي والروسي.