عندما تتآلف مع قاذورات الأليف!
} حيّان سليم حيدر
لي ولع ملحاح بالتجوّل في الشوارع، فأنا من محبّي المشي. هذا ما أمارسه في كلّ سانحة، في الطقس المناسب. وهذا على رغم حال الشوارع والأرصفة المتعرّجة، وغير الموصوفة، أو المرصوفة، لهذه «الرياضة». أنا من روّاد شوارع مناطق الروشة، ساقية الجنزير، المنارة، عين التينة، شارع رشيد كرامي، عائشة بكار، الصنائع، البريستول، الحمراء، وتذكيراً بالمُستَعْمِرين، كليمنصو وبرتوي وبلسْ، ومتفرّعاتها. هذا، على الرغم من العوائق والمعوّقات والعوارض والسواتر والحواجز والمَزاعِج على الأرصفة وفوقها وعلى جوانبها وفي وسط الشوارع وعمق الباحات وفي فضاء الساحات.
مع التدهور المستمرّ الذي تشهده البلاد في كلّ مجال، وفي مجال المسارات غير السليمة أساساً للمشي، لاحظت، منذ عامين، وجود علبة صغيرة مرفوعة على عمود كهرباء في طريق النزول من ساحة الوردية إلى شارع كليمنصو، وفيها كفوف «نايلون» وأدوات تنظيف مرفقة بإشارة «تتمنّى» على أصحاب الكلاب استعمالها لإزالة قاذوراتها من على الأرصفة. علبة واحدة، نعم. وتساءلت: من أين أتت هذه «الحضارة»، وهل أنّ قد خُطّط لها أن تَلِج إلى «بيئتنا» مع مرور الزمن، وماذا ستفعل علبة وحيدة في نقطة منعزلة من أصل مليون نقطة أو أكثر في بلاد «حارة كلّ مين…» هذه؟
ودارت الأيام، ومرّت الأيام، ليس الكثير منها، واختفت العلبة، وكثرت القذارات على الأرض.
وأسأل: ما عسى يجد القارئ من اللباب في مقال عن طرقات تملؤها القاذورات؟
لأكمل: منذ أشهر معدودة، وأنا أمشي بتمعّن «قارئ كفّ» الأرصفة، لاحظت لافتة صغيرة مربوطة بعمود كهرباء، الغائبة (الكهرباء)، على الطريق، على مفرق شارع رشيد كرامي مع المدخل منه إلى ساقية الجنزير، على مقربة من سيّار الدرك. واللافتة المربعة الشكل، الصغيرة، تقول للماشي، بلغة البلد «الماشي» هو أيضاً، أو بلغتها الأمّ، أيّ الإنكليزية: Clean after your Pet، أيّ بالفُصْحى: نظّف من وراء «أَلِيفَك» (حيوانك). وطبعاً، وفوراً… تَبادر إلى خاطري، ذاك «اللئيم»، الذي طالما انحاز إلى تسييس كلّ شيء وأمر، ومن وحي «ثورة» المنتفضين، تخيّلت ـ مجرّد خيال ليس أكثر ـ أنّ الإعلان إِنْوَجَد ليحثّ «الثوّار» على التنظيف من وراء زعمائهم، كون الزعيم هو «الأليف» عند «المزعوم».
ودارت الأيام، ومرّت الأيام، واختفت اللافتة الصغيرة «اللئيمة»، وكثرت القاذورات الحيوانية، مع غيرها من مثيلاتها أَلْمَمنوعة من الذكر، ليصبح المشي على الأرصفة كالتوثّب، غير «المَرِح»، بين الألغام.
ثمّ قرأت مؤخّراً تغريدة لصديقي الدكتور عمر نشّابة، الذي ألتقيه أحياناً سائراً مثلي في شوارع بيروت، قرأته يناشد أصحاب «الأليفين» ومعهم السلطات المعنية (عبارة غائبة، بكلمتيها، عن الوعي الوطني وفي غير محلها هنا أو في أيّ مكان) بالعزوف عن، أو الحؤول دون، الاهتمام بـ»أحبّائهم» لأنّ وضع البلاد والعباد لم يعد يحتمل ليسمح بهذا المنسوب العالي من الترف المُذِلّ في غياب ما يمكن تسميته الدولة… ومعها… الوعي العام.
وبدوري أضيف، أنّه بتنا نشاهد ونشهد تكاثر «الأليفين» من الكائنات، كلاباً وقططاً شاردة، ومعها الكثيرون ممّن يجمعونها في وضح الطرقات ومداخل البنايات ليقدّموا لها الطعام ثمّ يتركوها مع بقايا نفاياتها وقذاراتها حيث هي لمعاناة العابر وأهل المحلة، وبهذا «العمل الحضاري» يعتبر أحدهم نفسه مُصْلِحاً إنسانيّاً.
هذا سلوك ما سمّيته في مناسبة أخرى، «النمطية السلبية» التي، من قلب الأنانية الفردية وإرضاءً للذات، في زمن استحالة تحقيق الذات، بات يهدّد، مع باقي ما تتهدّدنا من أمور، سلامة العيش، صحّياً وبيئياً واجتماعياً، وينذر بأن يصبح، في النهاية، أمنياً.
وأراني أحذّر أنّ هذا النمط، متى تفاقم، ينفجر ويستحيل معالجته، في المجتمع أولاً، حيث هو مطلوب، ومن ثمّ مع السلطات المعنية، قبل تفاقمه.
وفي سياق الانفلات الحيواني العام، تأخذني الذاكرة إلى أيامي طالباً في مدينة لندن في ستّينيّات قرن «عصر الكهرباء» الذي عرفنا (رحمه الله)، حيث كانت تفاقمت مشكلة تكاثر الفئران والجراذين في العاصمة البريطانية لتصبح معضلة حكمت معالجتها من قبل أعلى سلطات الدولة مدعّمة بكلّ ميزانياتها وأجهزتها. وكانت تسميات، مشتقة من عالم ديزني (Disneyland)، تناولتها وسائل الإعلام تتكلم، عن تهديد المجتمع المديني من قبل الفأر الجبار (Mighty Mouse) وضرورة التحوّط من الجرذ الخارق (Super Rat)، لأنّ الفئران والجرذان كانت قد تساكنت أجسامها مع المبيدات والسموم التقليدية المستخدمة، فتجاوزت الناجيات منها مفاعيلها السامة وتعافت منها وبات لها مناعة، أفعل من أسلافها من الأجيال، على الصمود في وجه حملات التسميم الأمر الذي جعل منها جبابرة خارقة حسب وصف مقالات ساخرة صدرت في الصحف.
نحن نعيش (ث) في عالم، لا تنقرض فيه القوارض، ولا نألف فيه الأليفين!
يا أيّها المدينيون، إحذروا! إحذروا السوبر قاذورات القادمة واعفونا من حكم «الأليفين».
(«) إنّ الكلمات الواردة بين «هلالين» قد لا تعني بالضرورة ما تعنيه.