سورية الواثقة… ومَن حولها يرتبكون
ناصر قنديل
– يلفت الانتباه هذا الهدوء السوري في مواجهة صخب سياسي وإعلامي، يتحول الى عسكري على حدودها الشمالية من الجهة التركية، وهو هدوء يرافقه موقف مبدئي واضح بتوصيف الكانتون الكردي والجماعات المسلحة التي تقف وراءه بصفتيهما الواضحتين، تهديداً لوحدة سورية واجتزاء وانتهاكاً لسيادتها وعمالة للاحتلال الأميركي من جهة، ووصف التمركز الأميركي بصفته احتلالاً أجنبياً ينتهك السيادة ويرعى مشروعاً يهدد وحدة سورية وينهب ثرواتها النفطية من جهة ثانية، ووصف القوات التركية وما تقوم به القوات التركية بصفته احتلالاً يوفر دعماً لجماعات إرهابية تهدد السيادة ووحدة الأراضي السورية، لكن هذه المرة تمتنع سورية عن تكرار ما سبق وقالته وفعلته في حالات مشابهة عندما قامت القوات التركية بعملية أقل حجماً وأدنى مرتبة، وقفت خلالها الدولة السورية بوضوح وقوة في مواجهتها، معتبرة الذود عن المناطق السورية التي تقع تحت سيطرة الجماعات الكردية المسلحة عملاً دفاعياً وطنياً، وفرصة لهذه الجماعات للتموضع تحت علم بلادها وراية جيش بلادها، لكن التجربة التي بدأت باستجابة من الجماعات الكردية لطلبات الدولة السورية، تبدّدت بسرعة بمجرد زوال الخطر التركي وعودة الوعود الأميركية لهذه الجماعات بالدعم والرعاية.
– هذه المرة تقف الجماعات الكردية المسلحة أمام مرآة الحقيقة عارية، وتجد نفسها أمام تحدي الوقائع، مثلها مثل القوات التركية والقوات الأميركية، يدركون جميعاً أن ليس لأي منهم صفة شرعية لما يقوم به وما يمثله فوق الأراضي السورية، وأنهم متساوون في الضعف رغم مظاهر وعناصر القوة الظاهرة، وأن القيمة المضافة التي تمنح أياً منهم مصدر قوة حاسم يغير المشهد الاستراتيجي وليس العسكري التكتيكي، هي أين تقف الدولة السورية، ففي المرة الماضية كان موقف الدولة السورية العنصر المرجح الذي أوقف العملية العسكرية التركية، عندما انتشرت بوجهها الوحدات العسكرية السورية وردّت على نيرانها بالنيران، وتجد تركيا أنها عاجزة عن الانتقال إلى العمل البري من دون موقف سوري يعتبره عملا تكتيكياً مؤقتاً تحت سقف المقبولية في ملاحقة جماعات تهدد الأمن التركي، وفقاً لنصوص اتفاق أضنة الموقع عام 1998 بين الدولتين التركية والسورية، والجماعات الكردية التي طالما تصرفت بصفتها الإبن المدلل للأميركيين تجد أنها وحيدة بلا غطاء ورعاية عاجزة عن مواصلة المواجهة، ما لم تعتبر الدولة السورية أن العمل العسكري التركي عدواناً على سورية وتهديد سيادتها ووحدتها، ولذلك يصدرون المواقف التي تحاول استدراج الدولة السورية الى ميدان المعركة بداعي أن تلك مسؤولية الدولة التي انكروها وتنكروا لواجباتهم تجاهها. ويقف الأميركيون خلف الجماعات الكردية عسى لموقف الدولة السورية أن يفك إحراجهم بين حليفين يتنافسان على العدوان على سيادة الدولة السورية ووحدتها.
– مصدر قوة سورية هنا هو ما لم يفهمه كل الذين تآمروا عليها وخططوا لإسقاطها، وهو الحق والشرعية من جهة، وإدراك أهمية الموقع الفاصل في جغرافيا شديدة الحساسية من جهة ثانية، والقدرة على الصمود وإدارة الصراع من جهة ثالثة، وها هي الدولة السورية قد ربحت الجزء الأكبر من الحرب التي شنت عليها بفضل هذه العناصر، فاستنهضت قوى كامنة لم يكن في حساب من شنّ الحرب أن تدخل اليها، لأن انتقال سورية من ضفة الى ضفة في توازنات المنطقة ليس شأناً عادياً، بل هو تغيير استراتيجي للجغرافيا السياسية، وهو ما لم يحتج لوقت طويل حتى تدركه روسيا وإيران وقوى المقاومة، وما كان على سورية الا أن تصمد حتى تتبلور هذه الحسابات إلى المواقف وتتحول المواقف إلى سياسات، فتصبح حرب روسيا وإيران وقوى المقاومة بمثل ما هي حرب سورية والسوريين.
– التسابق على سورية لنصرتها من الحلفاء، سبقه التسابق على سورية في الشراكة في الحرب عليها أملاً بنصيب من عائدات هذه الحرب، ويليه اليوم سباق الأعداء على تقديم العروض اليها إدراكاً لحقيقة أن الجهة التي تنجح بالتوصل الى تفاهم مع الدولة السورية تخرج على ضفة الرابحين، والدولة السورية تنتظر العروض وتراقب، لكنها تضع ثوابت السيادة والوحدة أولاً فوق الطاولة عناصر لا تقبل المساومة، بينما يدرك الأتراك أن ثمن الاتفاق مع الدولة السورية الاستعداد للخروج من أراضيها؛ ويدرك قادة الجماعات الكردية أنهم بين خياري انتظار تفاهم تركي سوري يقضي على حلم الكانتون بينما الأميركيون يتفرّجون، أو المبادرة الى تفاهم مع الدولة السورية ينهي الكانتون طوعاً ويجنبهم خسائر الحرب؛ بينما يدرك الأميركي أن أياً من الاتفاقين بين الدولة السورية مع الأتراك أو الأكراد يعني أن ساعة الرحيل تقترب.