أوراسيا دوغين… الفلسفة والاستراتيجيا
بتول قصير
بدأت القصة قبل نحو عشرين سنة تقريباً، عندما طرح ألكسندر دوغين سؤالاً: لماذا لم نقنع الغرب بأننا ليبراليون مثله وأنّ الأوْلى أن يتعايش معنا بدل أن يسعى للهيمنة علينا؟
لعلّ المدرسة السوفياتية الروسية هي النموذج المعاصر الذي أحدث ثورة في مجال الدراسات العسكرية والجيوبوليتيكية، من خلال الشخصيات الأكاديمية التي ذاع صيتها عالمياً، بحيث أسهمت تبعاً لنظرياتها في صياغة التوجهات الاستراتيجية الكبرى للبلد في أذهان صناع القرار الروسي. فـ ألكسندر دوغين المؤسّس للمذهب الأوراسي الجديد، وصاحب توجه استحداث إقامة دولة روسية عظمى عن طريق التكامل مع الجمهوريات السوفياتية السابقة، وبالدرجة الأولى الأقاليم التي ينطق أهاليها اللغة الروسية مثل القرم وأوكرانيا الشرقية، قد لا نبالغ إذا قلنا إنه يصعب أن نجد تعريفاً واحداً لهذا الرجل. فالبعض يشبه وصف تشرشل لروسيا ذات مرة بأنها «لغز في لغز ملفوف في لغز»، بأنها العبارة الأصدق التي تنبطق على ألكسندر دوغين إلى حدّ كبير.
فالمفكر السياسي، والمنظر الاستراتيجي، والمتصوّف السلافي بهيئته الدينية التي تشبه كهنة الأرثوذكسية، وما خلفها من مسيرة أكاديمية وفكرية طويلة، جعلته ثالث الكتاب الأكثر إنتاجاً وتأثيراً في العالم على وجه أعمّ، وفي روسيا على وجه الخصوص. فـ دوغين الذي عارض سابقاً ثلاث نظريات رئيسة ملأت الأجواء في القرن العشرين: النظرية الليبرالية، ثم النظرية الشيوعية وصولاً إلى النظرية الفاشية، أحدث تحوّلاً جذرياً مع تقديمه لرؤيته التي عُرفت بالنظرية السياسية الرابعة، والتي تقدّم نموذجاً جديداً خارجاً عن الشيوعية والليبرالية والفاشية، نظرية تقول بحقّ الجميع في الحياة والشراكة، لفرد كان أو طبقة، لأيّ صاحب عرق أو دين.
يؤكد فيلسوف روسيا في نظريته، الدفاع عن الصالح العام، ذلك الذي ينضوي تحت ثقافات الأمم والشعوب، من دون عزل أو إبعاد، ومن غير إقصاء أو فوقية امبريالية. يظهر أثر نظرية دوغين عن السياسة الرابعة، على لسان الرئيس فلاديمير بوتين المطالب بعالم متعدّد الأقطاب، فيه الحضارات تتحاور وتتجاور، مع الإشارة إلى أنّ دوغين غالباً ما يتخذ العقل المدبّر للرئيس بوتين على مستوى التفكير السياسي الاستراتيجي حول دور روسيا. وثمة إشارات إلى أنّ دوغين يتولى صوغ أفكار الرئيس. وربما التقى الإثنان في الرؤية حول مجد بلادهما. ولكن ما نريد التأكيد عليه هنا هو أنّ «نظرية دوغين» تمثل ردّ فعل على الانهيار السوفياتي، وتراجع الدور الروسي، والذي عاد بقوة الآن، خاصة بعد «حرب القرم» والتدخل الروسي في سورية والحرب الأوكرانية الأخيرة.
والموسوعة السياسة النظرية السياسية لـ «دوغين»، تعرف بأنها باب أساسي من أبواب علم السياسة. وهي مجموعة تحليلات وفروض وتصوّرات للنتائج، تفسّر في ضوئها الظواهر السياسية، أيّ حول هوية الدولة كـ نشأتها وتطورها ووظائفها ونظمها وأهدافها. كما انّ فلسفته تعني أنّ كلّ عنصر من عناصر الفرقة الكونية يمثل جزءاً من لوحة فسيفسائية تتسع للعالم برمّته، ويمكن لها أن تتطوّر وتتشكل بصورة مستقلة وبناءة، على أسس من القيم السياسية والاجتماعية الخلاقة، وانطلاقاً من نظام راسخ في الجغرافيا الفلسفية، من خلال تقييم المناطق بشكل مستقلّ، وعلى اتصال دائم، مع حتمية التوافق مع هذا الكيان الوجودي. ما يعني أنّ هذه النظرية السياسية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفهم معيّن للتاريخ والأخلاق والسلوك السياسي، كما أنها تضع في اعتبارها القيم والمبادئ السائدة والتكوين النفسي والتركيب الاجتماعي والتفاعل والصراع السائد فيه لتحديد وسائل النظرية وغاياتها.
وبما أنّ آراءه السياسية تقوم على هدف رئيسي هو إنشاء قوة عظمى أوراسية، سواء بالرضى أو بالقوة ودمج كافة الدول التي تتحدث الروسية في اتحاد أوراسيا الجديد، فهو دائماً ما يعبّر عن ذلك بقوله، «نحن نؤمن بما نقوم به، ونؤمن بما نقوله، وهذه هي الطريقة الوحيدة لتعريف الحقيقة، لذلك لدينا حقيقتنا الروسية الخاصة وعلى الجميع قبولها.
أوراسية دوغين تنقسم الى شقين: الأول والمشار اليه بالجيوبوليتيكي، هي المنطقة الممتدة بين أوروبا وآسيا وتشمل أربع حضارات: الحضارة الروسية، والصينية، والهندية، والإيرانية. وكان قصده مما يسمّيه أوراسيا، روسيا الكبيرة التي لديها حلفاء بينها إيران وتركيا والصين والهند وبعض الدول في أوروبا الشرقية. فـ فلسفته السياسية تضمّ ثلاثة مستويات (خارجية ووسطى وداخلية). فعلى المستوى الخارجي، تشتمل هذه النظرية على عالم متعدد الأقطاب، أيّ هناك أكثر من مركز دولي لصنع القرار، مشيراً الى انّ أحدها أوراسيا التي تضمّ روسيا ودول الاتحاد السوفايتي السابق.
وتناسبها تماماً فكرة «الفضاء الأوراسي» معتبراً أنها (اي روسيا) تنتمي إلى الشرق ثقافياً، ويجب أن تقف كزعيم في وجه العالم الأحادي القطب الغربي ـ الأميركي.
أما الشق الإيديولوجي السياسي: تتركز أفكار دوغين على فشل الفاشية، وانتهاء الماركسية. وجاءت رؤيته الفلسفية هنا متأثرة بشكل واضح بمنظومة القيم المسيحية الأرثوذوكسية وفلسفة مارتن هايدغر الوجودية والتي أسّست لمشروع الاتحاد الأوراسي كرؤية جيوسياسية لدى ألكسندر دوغين، وهو مشروع يبدأ بتأسيس إمبراطورية روسية قادرة على مواجهة التحدي الأميركي كما يكتب دوغين.
وعليه فإنّ المحورين الاساسيين في فلسفة دوغين، ساهما في صناعة سياسات استراتيجية ومواقف سياسية لروسيا الاتحادية تجاه العديد من القضايا، كالنظام الدولي الأحادي، وحلف الناتو، والعالم الإسلامي، وأوكرانيا، والصين، و»إسرائيل»، وسورية، وإيران، وغيرها، وهي المساهمة التي قد تفسّر الأسباب الكامنة وراء محاولة اغتياله إلى حدّ كبير في آب الماضي، في الانفجار الذي راحت ضحيته ابنته داريا بلاتونوفا دوغين. ورغم انتهاء حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق إلا أنّ الصراع استمر لكن بشكل آخر، لتحلّ الجغرافيا السياسية محلّ الأيديولوجيا في الصراع بين القطبين كما ينظّر دوغين. وبما انّ حلف شمال الأطلسي «الناتو» هو الأداة الرئيسة للولايات المتحدة الأميركية، فهو يُعَدّ خصماً حقيقياً لمشروع الاتحاد الأوراسي.
أخيراً، صحيحٌ أنّ الصراع الحالي بين روسيا والغرب، صراع نفوذ وسيطرة واقتصاد ظاهرياً لكنه يتجاوز الأيدلوجيات والمصالح إلى كونه صراع قيَم وأخلاق، في زمن تبدّلت فيه تلك القيم بل انقلبت رأساً على عقب ..وبناءً على الطروحات يقدّم الكسندر دوغين رؤيته الفكرية الاستراتيجية، في إطار تمهيده ووضعه لرؤية روسية أوراسية، لكنه يقدّمها كوصفة لربما تناسب في البعض منها بقية الحضارات والثقافات والأمم الأخرى، والتي يعتبرها ويقول إنها تنوّع من تنوعات البشرية ولها الحقّ في تطورها بذاتها وقيَمها ودينها، وفي هذا هو يبيّن الرؤية الروسية الفكرية كمدرسة سياسية، أعطاها أسم الجيوبوليتيكا (الجغرافية السياسية).