البساطة والعمق وجهان للصورة الشعرية الواحدة إضاءة على تجربة شذى أبو حنيش الشعرية
كميل أبو حنيش*
اطلعتُ على ديواني الشاعرة الشابة شذى أبو حنيش، الأول بعنوان (حبّ يحوم كبعوضة مُزعجة) الصادر عام 2015 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع/ الأردن، والثاني بعنوان (أغوتني الهاوية) الصادر عام 2019 عن دار كلّ شيء/ حيفا، واللافت للانتباه أنّ اللغة الشعرية في نصوص الديوانين تحمل ذات الدلالات والمعاني والبوح الأُنثوي، وكأنهما ديوان واحد يحمل ذات الرسالة والتشابه الواضح في بعض النصوص واستخدام ذات الرموز والأسلوب، وقد استوقفتني تلك الشفافية الواضحة والجمالية العالية والجرأة وروح التمرّد والرغبة بالانعتاق والحرية، إلى جانب بعض التأمّلات الوجودية في هذه النصوص، كما أدهشتني الشاعرة بجرأتها في إبراز ذاتها الأُنثوية وهمومها من خلال البوح بلغة شفافة وجريئة وإبراز حاجات المرأة وما تعانيه من إشكاليات، فضلاً عما حملته النصوص من صور فنية وتعبيرية، ولم تسع الشاعرة للاختباء خلف الرموز ولغة التجريد والاستعارات المُبهمة، وإنما سمّت الأشياء بمُسمّياتها في لغة شفافة وجميلة وسلسة، تحمل في طياتها أَنَفة المرأة وكبرياءها وإرادتها القوية رغم الأحزان التي تفوح من بين النصوص.
ورغم أنّ هذه النصوص تأتي في صيغة الـ أنا الشعرية والذات الأُنثوية لأنها الـ أنا المُعبّرة عن المرأة في كل مكان، إلا أنّ بعض هذه النصوص تحمل تعبيرات إنسانية تتجاوز الذات الأُنثوية، فهي تتحدث عن الإنسان عموماً ولا يُمكن تمييز لغة الذكورة عن لغة الأُنوثة في بعض هذه النصوص، وبالتالي فإنه من الخطأ اختزال الديوانين بمجرد نصوص تعبّر عن حاجات الشاعرة والمرأة الروحية والعاطفية والحسية بدون ربطها بواقعها الموضوعي التي تغذت منه هذه النصوص في مرحلة تاريخية تغص بالتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المُعقدة سواء على الصعيد المحلي الفلسطيني أو على الصعيد العالمي.
أولاً/ التأملات الوجودية
تنضوي بعض النصوص الشعرية الواردة في الديوانين على تأملات وجودية عميقة، فالشاعرة تتأمل ما حولها من مظاهر الطبيعة والأدوات والأشياء وتُحاول مُقاربتها مع الحياة الإنسانية وذلك بتعميق إحساسها بالوجود، فنجدها في الديوان الأول تقول: «هذا المقعد الخشبي الوحيد غُصنٌ مقطوعٌ من شجرة» ص21، تُحاول الشاعرة أن تتأمل هذا المقعد الخشبي الذي كان غُصناً حياً قُطع عن الشجرة الأُم وغدا ميتاً ووحيداً بعد أن جرى السطو على حياته وتحويله الى أداة وأصبح وحيداً وموحشاً، كأنه يشبه حال أي كائن بما فيه الإنسان الذي يتحوّل إلى رفاة وربما تُستعاد رفاته لتصنيع أداة استعمالية تُشبه حال هذا المقعد.
وفي ذات الديوان تتأمل هذه المرة القوس فتقول: «قدره الانحناء.. القوس» ص146 فالقوس أيضاً هو غصنٌ ميت ولكنه منحن ومتقوّس، فالغصن تارةً مقعد وتارةً عُكازة وتارةً قوس منحنٍ وأيضاً وحيد وبارد كالمقعد والعكاز وربما أرادت الشاعرة مُقاربة انحناء القوس بانحناء بعض البشر وقبولهم بالذل والخنوع وربما أرادت تصوير حال المرأة وتشبيهها بالقوس المُنحني، فهي مظلومة ومهضومة الحقوق في ظل مجتمع ذكوري أبوي تُعتبر المرأة فيه مُجرد أداة تابعة للرجل وقبول المرأة السكوت والاستكانة والذل فإنه يُشبه حال القوس المُنحني وهو ما ينطوي على احتجاج حزين على هذا القدر ما لم يجر تمرد للمرأة وثورتها على قدرها وميلها لحريتها الكاملة.
وفي النصوص التالية في ذات الديوان تواصل الشاعرة تأملاتها في الوجود الإنساني وبلغة احتجاجه تنطوي عن الشعور بالظلم والألم والقلق والتوتر والغضب، ولا تبدو هذه النصوص تعبيراً عن الهلع وحتى تعبيرا عن المرأة، وإنما تبدو النصوص تعبيراً عن الذات الإنسانية لكل زمان ومكان، لنتأمل هذه النصوص: «رأسي كُرةٌ في ملعب العالم» ص20 «بعينين مفقوءتين أنظُر الى العالم» ص35 «العالم حانةً هائلة وأنا كأسُ نبيذ» ص40 «أنا لوحة سريالية على حائط العالم» ص45 «أنا عاملةٌ بسيطة في منجم العالم» ص71 «بشهية بالغة يقضم العالم تفاحة وجودي» ص105 «أكثر من اللازم يهمّني العالم أقلّ من اللازم يهتمّ بي» ص127 «هذا العالم لا يصلحُ غرفة اعترافٍ لامرأة مُخطئة» ص150
إنّ هذه النصوص المُكثفة تعكس احتجاج الشاعرة على العالم وقلقاً مما يجري في أرجائه، فهو عالم الحروب والظلم والقهر والاستغلال واللامبالاة تجاه الفُقراء والمسحوقين، عالم عنيف وظالم واستغلالي وجشع ومُرعب تسودهُ شريعة الغاب ويفتقد الى العدالة والتسامح، فـ الـ أنا الشاعرة هنا تُعبّر عن الذات الإنسانية وعلاقتها في العالم، والعالم بالنسبة للشاعرة كُلّ ما هو خارج الذات بحيث يبدأ من الأُسرة والمحيط الاجتماعي وينتهي بالكون، وبهذا تتأمل الشاعرة ما يجري معها على الصعيد الشخصي وتجاربها ومُقاربة ذلك بأحداث وتطورات ترقُبها الشاعرة من حولها، وتُبدي احتجاجاً قاسياً يصِلُ الى نتيجة بأن هذا العالم لا يصلحُ أن يكون غرفة لاعتراف امرأة مُخطئة لأن آثامه وخطاياه الكُبرى والهائلة أكبرُ هولاً من خطايا امرأةٍ، وبهذه المُقاربة فإن الاعتراف بالأخطاء وفقاً للتقليد المسيحي يحتاجُ الى رجُل دين يتمتع بالنقاء والطهارة وتقديم المُآزرة والنُصح والأخذ بيد الضُعفاء، وحينما يسود العالم الأحقاد والحروب ويتكالب على الضُعفاء ومنهم النساء فإنّ المرأة المُخطئة تُصبح أكثر طهارة ونقاء من رجل الدين الذي يفتقد لهذه السمات والسجايا، وكأن الشاعرة تستقط حكاية مريم المجدلية التي اعترفت أمام يسوع المسيح وحشد من الناس بخطاياها فخاطب يسوع الجمهور قائلاً: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، فلم يجدوا من يرمها بحجر لأنهم كانوا كلهم منغمسين بالخطايا، وبالتالي فإنّ هذا العالم الغارق في الخطايا والرذائل لا يصلُح ولا يملك الحق في مُحاسبة أو حتى الاستماع لامرأة مُخطئة.
ثانياً/ التشاؤم والحزن
إنّ تأملات الشاعرة في العالم والوجود كمعطى موضوعي فضلاً عن تجاربها الشخصية يبعثُ على الأسى والخيبات ما قادها الى التشاؤم على الصعيد الذاتي والشعور بالحزن والاختناق والذي عبرت عنه في كلا الديوانين، ففي ديوانها الأول تُعبّر الشاعرة عن أحزانها على النحو التالي:
«أنا القنديل الذي نفذ زيته»، «أنا البئر الذي هجره الماء»، «أنا الشجرةُ التي سقطت أوراقها»، «أنا الوردة التي لم تعُد تتوهّج»، «أنا القصيدةُ التي تفتقد الى الدهشة» ص11+12 إنّ ما يجمع بين هذه النصوص هو الجفاف فالشاعرة تشعر بالجفاف والذبول والافتقاد الى المعنى غير أنها لا تكفّ عن ترديد هذه اللغة الحزينة في ديوانها الثاني:
«قلبي مرآة مكسورة» ص88
«قلبي تفاحةٌ فاسدة» ص102
«أمضغها بحزن أيامي النيئة» ص118
«كثيرة الثقوب في روحي، كأنني ناي وما أكتبه لحن حزين» ص133
«حياتي شجرةٌ تحط عليها عصافير الندم» ص148
فالقلب بات أشبه بالمرآة المكسورة التي لا ترى الحياة من خلالها بوضوح بل تراها قاتمة ومشوّهة، والقلبُ أيضاً تفاحة فاسدة لما ينطوي عليها من العواطف المُتضاربة والمشاعر المُتناقضة أوصلها ربما الى حدّ الكراهية واليأس والملل والإحباط وباتت أيامها نيئة، فتجاربها لم تنضج لتتذوقها وتستمتع بها فبقيت نيئة ولا تشعرها بطعم الحياة ولذتها، أما ثقوب الروح فمبعثها قلق الشاعرة وشعورها بتوالي الخسارات الفادحة كلما حاولت الانطلاق من جديد، فاستحالت حياتها الى شجرة تحط عليها عصافير الندم، وتأكد الشاعرة على هذه الخسارات في ديوانها الأول: «أنا امرأة الخسارات الكثيرة
كلما قامرت على قلبي خسرت» ص57
ثالثاً/ الشرفات والنوافذ المُطِلة على العدم والمعنى
إنّ الأوضاع القاسية التي عانت منها الشاعرة دفعتها للتساؤلات التي تُساور أيّ إنسان لماذا وكيف وأين وإلى متى؟ وهي تساؤلات لها ما يُبرّرها وتستمدّ شرعيتها من ظروف الحياة ومُلابساتها، فالشاعرة تبحثُ عن معنى لوجودها وعن مساحةٍ للأمان والاستقرار والسعادة، فتجده في الحب وتُعبّر عن هذا الشعور بطريقة شفافة وتُشبّه ذاتها بالفراشة الرقيقة الناعمة التي تقترب من النار والضوء في تعبير مجازي عن الحُب، فالفراشة غايتها الانعتاق من خلال الاحتراق والذوبان بالنار، وبهذا فإنّ الفراشة وشغفها بالنار والضوء تُشبه المرأة وشغفها بالحب، ففي ديوانها الأول تقول: «لم أكن أعلمُ بمكيدة الضوء حين صرتُ فراشة» ص23 فحين غدت الشاعرة فتاة بعد أن تجاوزت عهد الطفولة وباتت تعرف الحب كما هو درب الفراشة التي يجلبها الضوء فتحترق، فهي أيضاً من تعرف بمكائد الحب ومتاعبه ونيرانه وانجلبت إلى جماله وبهائه قبل أن توصلها تجاربها أن تتحسّس نيرانه ولظاه، ومع ذلك يستهويها الحب وتواصل الرقص حوله كما تواصل الفراشة الرقص قبالة الضوء: «حول النار ترقص الفراشة» ص33
وفي نص آخر: «أغوتني الهاوية
عندما وقفت على حافة الحب
الحب تلك الشرفة العالية» ص57
فالحبُ أشبه بالشرفة العالية التي تُطل على هاوية سحيقة وجميلة ومُغرية للسقوط النهائي كما الفراشة وعلاقتها بالضوء والرغبة بالاحتراق والذوبان، وهي ذاتها علاقة المرأة بالحب وسقوطها في هاويته، لكنها لا تُريد السقوط لهذه الهاوية بأي ثمن وإنما تبحثُ عن حب كبير ولائق وجدير بمغامرة السقوط في هاوية الحب.
رابعاً/ الاعتداد بالنفس والحرية والثورة
الشاعرة ليست مُبتذلة ولا تبحث عن الحب بأيّ ثمن فنجدها بالديوان الأول مُعتدّة بذاتها وتستعرض مزاياها على النحو التالي:
«أنا امرأة حادةٌ كنصل السكين» ص25
«أنا امرأة عميقة كهاوية» ص26
«أنا امرأة قاسية كحجر» ص27
«أنا امرأة هشة كضوء» ص28
«أنا امرأة جميلة كوردة» ص29
تحاول الشاعرة المُفاخرة بذاتها من خلال استعراض مزاياها وخصالها كامرأة مُركبة وليست سطحية وساذجة، فهي حادة وقوية وليست ضعيفة، وعميقة وليست سطحية وقاسية وليست سهلة وهي في ذات الوقت هشة وبريئة وجميلة وليست مُنفرة، وبهذا جمعت كافة الخصال التي ينبغي أن تكون في امرأة، فأبرزت مواطن ضعفها وجمالها وكلّ ما من شأنه أن يجذب الرجل إليها، ويحذره منها في ذات الوقت، وأنها ليس مجرد جسد وأداة للمتعة والاستغلال، وإنما هي امرأة سيجد فيها الرجل سكينته وراحته ومتعته واستقراره، وفي ذات الوقت لا يجدها هشةً وضعيفة يسهل استغلالها والقسوة عليها، فالشاعرة رغم هذه السمات لا ترغب بأن تكون مجرد جارية تحيا بين الجدران أو مُجرد امرأة تقف على النافذة وتعيش حالة الانتظار الدائم، وإنما هي امرأة حرة، فاعلة، مُغامرة وتعشق الحياة، ففي ديوانها الأول تقول:
«أُحبُ أن أركب أمواجك
أيها البحر» ص54
هي تعشق الحرية وتهوى المُغامرة وركوب أمواج بحر الحياة، ولا تروق لها الحياة العادية والمبتذلة كما هو مألوف في حياة المرأة العربية التي تُصادر حريتها ويجري التعاطي معها كشيء مُلحق للرجل، ونجدها تُعبّر عن شغفها للحرية بالقول:
«لستُ إلا فرخاً صغيراً
يُحاول أن يكسر بيضة العالم» ص66
فكما هي حتمية ولادة الفرخ من البيضة والخروج للحرية، ترى الشاعرة بحرية المرأة مسألة حتمية لا بدّ منها، وفي ديوانها الثاني تُحذر عالم الرجال ومجتمع الذكورة مُعبرةً عن روح المرأة وتحديها للثقافة الذكورية حين تهتف:
«لا تستطيع أن تروّضني
لا تستطيع أن تحبس البحر في زجاجة» ص70 .
ثم يصل هذا الغضب بالرغبة بالتمرّد على العالم ذروته حين تقول:
«أنا الريح التي تحلم
أن تصبح عاصفة» ص135
إنها رغبة عارمة بالتحدي من أجل تحويل العالم وتغييره، في المُتاح أمامها لا تجد غير قلمها ومن خلال نصوصها الشعرية كأداة للتعبير عن ذاتها، والمُساهمة في عملية التمرّد والتغيير، فتختصر ذلك بالقول:
«كل ما أكتبه ليس إلا
محاولة للخلاص» ص140
وبهذا تسعى الشاعرة من خلال الشعر للوصول إلى خلاصها وخلاص المرأة في نيل حريتها وانعتاقها، فهي بهذه النصوص تُعلن عن ريح التمرد والغضب والرغبة بالتغيير وأنها تحمل طاقةً وقدرة على الفعل.
بعد هذه الوقفة أمام نصوص الشاعرة شذا أبو حنيش، فإننا نجدها نصوصاً شفافة وحالمة وعميقة، فلم تستجد الرمزية والتجريد في صياغة هذه النصوص، وإنما استخدمت لغة بسيطة وعفوية، ولم تلجأ كذلك إلى التقليد والفذلكات والاختباء وراء المجاز واللغة الجافة والغامضة، فكانت البساطة والعمق وجهان للصورة الشعرية لديها، بساطة اللغة وعمق المعاني، كما جاءت هذه النصوص منسجمة مع شخصية الشاعرة بوصفها امرأة وشاعرة بذات الوقت، ومتناغمة مع همومها الإنسانية وهواجسها وتساؤلاتها، كما تعكس روح التمرد والثورة، وعدم الاكتفاء بما نالته المرأة من حقوق طبيعية لا تُلامس إلا القليل من شغفها بالحرية وتحقيق انسانيتها الكاملة.
*أسير في سجون الاحتلال الصهيوني منذ 21 عاماً ومحكوم بتسع أحكام بالمؤبّد