مقالات وآراء

يا حكام لبنان الأثرياء: كونوا وطنيين واستثمروا في وطنكم لا عليه

د. عدنان نجيب الدين
تقوم حياة المجتمعات على ثلاث ركائز إنْ استطاعت تأمينها ضمنت بقاءها واستمراريتها إلى الأجيال القادمة، وهذه الركائز هي: الغذاء والتربية والدواء.
أول ما يحتاج إليه الفرد منذ ولادته هو الغذاء، فكيف يجري تأمينه في المجتمع اللبناني؟
لقد أهملت الدولة على اختلاف مراحل الحكم مسألة إنتاج الغذاء بشكل كاف بدل استيراد معظمه من الخارج. وعلى سبيل المثال، وكما تشير الإحصائيات فإنّ لبنان يستورد سنوياً أكثر من 400 ألف طن من القمح وينتج فقط ما يقارب الـ 100 ألف طن. وقس على ذلك باقي الحبوب والزيوت المشتقة من الذرة والصويا وغيرها. فضلاً عن استيراد الكثير من السلع الغذائية الأخرى ومنها ما هو ممكن إنتاجه في لبنان بيُسر.
ومن نعم الله علينا أنّ الطبيعة التي حبانا الله إياها غنية بما يكفي ويزيد. فالتربة اللبنانية خصبة وصالحة لكي تنبت فيها مختلف أنواع المزروعات، ومياه الأنهار غزيرة، ولدينا أربعة فصول، ومناخنا متوسطي وحرارة الطقس معتدلة. وما ينقصنا هو فقط حسن استغلال هذه العناصر لكي نكون دولة منتجة ومصدرة للغذاء. وهذا يتطلب سياسة حكومية رشيدة وتخطيطاً علمياً يجعل من الزراعة إضافة الى الصناعة دعامتي الاقتصاد. وهذه الخطط تستلزم ميزانية معقولة لدعم الإنتاج الزراعي وتقديم المساعدات والقروض للمزارغين وإرشادهم إلى الطرق الحديثة في استغلال الأرض واختيار البذور والنصوب الصالحة للزراعة بحسب نوع التربة، وحسب احتياجات اللبنانيين. كذلك إنشاء مزارع البقر والطيور والأسماك من ضمن الهندسات الزراعية الحديثة وذلك بغية زيادة الإنتاج كمّاً ونوعاً.
يأتي بعد ذلك دور الصناعة، على اختلاف أنواعها بالنسبة لدولة صغيرة مثل لبنان، وأهمّها الصناعات الغذائية التي تأخذ حيّزاً كبيراً من الاستهلاك المحلي والعالمي. أما أهمّ الصناعات اليوم التي تعود المردود مالي كبير على أصحابها ودولها فهي تلك القائمة على المعرفة. ولدينا إعداد كبيرة من الشبان والشابات الذين لديهم الكفاءات العلمية والمعرفية يمكن توظيفها في صناعة وإنتاج بعض السلع التي لا تتطلب إلا القليل من المواد الصناعية لكنها تتطلب الكثير من المعرفة.
وأخيراً تأتي أهمية التعليم والتربية والتنشئة الوطنية. وهذا أيضاً يتطلب من الدولة دعماً مكثفاً على كلّ الأصعدة، فالشعب الذي يملك طاقات علمية وافية هو شعب حي وغني ومعطاء. ولا أريد الخوض كثيراً في الحديث عن تفاصيل هذا القطاع، لكنني أودّ تأكيد اهمية إدخال تعديلات جوهرية على نظم التعليم عندنا لأنه يرتبط بحماية الوطن وتطوّر شعبه وازدهاره. وبناء عليه، يجب تطوير برامج الدراسة وموادها لكي نؤسّس لاقتصاد حديث وهو اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي. لم تعد النظم التعليمية الجديدة تقوم على تلقين المعلومات والمعارف لأنها أصبحت كلها موجودة على الإنترنت ولم تعد الحاجة للمعلم كما في السابق ايّ تلقين المعلومات. فدور المعلم والمدرسة والجامعة أصبح تأهيل الطلاب للابتكار، فتصبح الامتحانات ليس كما هي الآن (احفظ وسمّع) وليست فقط في حلّ مسألة رياضية أو تمرين في مادة الفيزياء أو معادلة كيميائية، بل في كيفية استخدام هذه العلوم في ابتكار مشروع ما ولو بالقدر الذي يطيقه كلّ متعلم. واقتصاد المعرفة يقوم على الابتكار العلمي والذكاء الاصطناعي والإنتاج التكنولوجي والمعلوماتية والاتصالات وإنتاج الشيفرات والرقاقات الإليكترونية إلخ…
ونأتي هنا الى مسألة الدواء والمعالجات الطبية والاستشفاء، فهي أول الأولويات لأنها ضرورة حياتية، فأيّ مجتمع انْ لم تكن صحة أفراده جيدة فلن يستطيع القيام بكلّ الأعمال والنشاطات التي ذكرنا. وهكذا يكون أول الأولويات، لأنه بقدر ما تكون صحة المواطنين جيدة تكون صحة الوطن جيدة، وتصبح فاتورة العلاج والاستشفاء أقلّ عبئاً وكلفة على المواطن وعلى الدولة. ويقوم هذا القطاع على الأبحاث العلمية الخاصة باكتشاف العلاج للأمراض المختلفة، ثم على الصناعة الدوائية وتسويقها، أضف الى ذلك المراكز الاستشفائية وتجهيزها. فلماذا لا يكون لبنان من أهمّ الدول المصنعة والمصدّرة للدواء، وعندنا كلّ هذه الطاقات العلمية والمعرفية. زد على ذلك أنّ الدولة التي تصنع دواءها بنفسها تصبح غير محتاجة للاستيراد إلا ما هو ضروري وغير منتج في بلدها مما يوفر أيضاً للخزينة كمية من العملة الصعبة سواء بتخفيف الاستيراد عبر الحدّ من تحويل العملات الصعبة الى الخارج أو بالمردودات المالية المتأنية من تصدير الأدوية… وقد أثبتت أزمة كورونا أهمية اعتماد كلّ شعب على نفسه لضمان صحة أبنائه عبر إنتاج ما يلزم من أدوية ولقاحات وعلاجات وأجهزة ذات ارتباط بهذا المرض أو بغيره من الأوبئة، وقد رأينا كيف أنّ الدول كانت تتنافس في ما بينها على شراء الكمامات واللقاحات والعلاجات، وكم ربحت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من تسويق منتجاتها الطبية وبيعها للدول غير المنتجة.
قد يقول قائل: أين نحن الآن من هذه المشاريع الإنتاجية في ظلّ انهيار الدولة وعدم وجود رئيس للجمهورية ومؤسسات الدولة لا تعمل إلا بالحدّ الأدنى الأدنى، ونجيب بالآتي: إنّ الدولة لا يبنيها إلا شعبها. فعناصر الإنتاج موجودة إنْ كانت هناك إرادات مخلصة وتوجهات وطنية… وهنا نسأل: هل أصحاب الرساميل من أثرياء لبنان ممن يملكون أرصدة كبيرة في المصارف الغربية، هل تأتيهم صحوة الضمير التي تحثهم على تحويل جزء من أموالهم التي وضعوها عن عمد في المصارف الغربية إلى لبنان لكي يوظفوا هذه الأموال في القطاعات الزراعية والصناعية والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي وما إلى ذلك؟ نعم باستطاعتهم لو أرادوا ذلك، لكنهم هل يريدون؟ فبدل من التباكي على لبنان واقتصاده وانهياره الذي كانوا هم أحد أسبابه الرئيسية، عليهم أن يشمّروا عن سواعدهم لو كانوا وطنيين حقيقيين، والمبادرة إلى أعمار ما تهدم وعدم انتظار صندوق النقد الدولي واستجدائه ليقرضنا ثلاثة مليارات لا تسمن ولا تغني من جوع.
فيا حضرة أصحاب المليارات كونوا وطنيين ولو لمرة واحدة واجلبوا جزءاً من أموالكم إلى لبنان واستثمروها في اقتصاده لإعادة إنهاضه. ربما هكذا يمكن أن تغسلوا عار مساهمتكم في انهيار لبنان وتجويع شعبه عبر تحويلكم أموالكم من لبنان إلى الخارج. ولا نريد أن نسألكم هنا كيف حصلتم عليها وما إذا كانت كلها أموالاً مشروعة. توبوا إلى ربكم والى شعبكم الذي محضكم ثقته مرة تلو أخرى، لكنهم خذلتموه فأفقرتموه، وهذه جريمة لا تغتفر، لأنكم لم تكونوا أمناء في حملكم مسؤولية الثقة الأمانة. لا نقول لكم أيها الحكام جاهدوا بأنفسكم وأموالكم فداء للوطن، وضحوا بكلّ ما عندكم لإنقاذ الوطن وشعبه، فأنتم لستم بمستوى المقاومين الذين ضحّوا بأنفسهم وحرّروا وطنهم من الاحتلال “الإسرائيلي” وافتدوه بدمائهم وأرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم، لكن نقول لكم استثمروا جزءاً من أموالكم في لبنان بالقطاعات الإنتاجية التي تريدون، وسيصبح وطنكم الذي تدّعون حبه بألف خير.
أما أنت يا شعب لبنان، لقد جرّبت هؤلاء السياسيين الذين حكموك على مدى عقود من الزمن، فكان معظمهم غير آبهين إلا لمصالحهم ومصالح القوى الغربية التي حوّلتهم إلى أدوات بأيديها، وهم قبلوا أن يكونوا كذلك بإرادتهم وبسبب شهونهم للمال والسلطة، فماذا أنت فاعل بعد خذلانهم لك، وأصبح الهمّ لدى شباب لبنان البحث عن لقمة العيش خارج وطنهم، وهيهات أن يعود القسم الأكبر منهم إلى لبنان، فمن أكمل علومه في الخارج وحصل على وظيفة لائقة هناك من دون أن يتذلل لزعيم لن يعود إلى وطنه إلا زائراً، أما أولاده وذرياته فلن يعودوا مطلقاً. وهكذا يفقد لبنان شبابه وطاقات أبنائه، فهل نريد لبنان بلداً يربّي أولاده ويرسلهم إلى البلدان الأخرى لتغتني هي بمهاراتهم وقدراتهم وإنتاجهم، ويفتقر لبنان ولا يبقى فيه إلا العجزة والعاجزون؟
ويأتي السؤال الكبير: هل هي مؤامرة انخرط فيها بعض الساسة عندنا مع أسيادهم في الغرب لكي يستبدل قسم من الشعب اللبناني بالنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين ممن لم يسمح لهم بالعودة إلى أوطانهم؟ ويكون كلّ ذلك من خلال الخطة الجهنمية للمنطقة التي رسمها صناع القرار في أميركا وبريطانيا والكيان الصهيوني. وأخيراً علينا أن نكون يقظين وعدم الاسترخاء أمام هذه المؤامرة، وعلينا مقاومة هذه الخطة بأيّ شكل من الأشكال، لأنّ أصل بقاء الوطن أصبح اليوم على المحك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى