روسيا والصين والشراكات المزدوجة: نموذج تركيا والسعودية بانتظار مصر
ناصر قنديل
– لا جديد في القول إن العالم منقسم بحدّة إلى درجة الحرب الساخنة والباردة، بين محورين، محور يضمّ أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ومن حولها دول الناتو والسبعة الكبار، ومحور يضمّ روسيا والصين وإيران ومن حولها مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي ومنظمات رديفة بأسماء متعددة تجمع دولاً آسيوية مع الثلاثي أو اثنين منه أو أحد أقطابه، كما أن لا جديد في القول بأن المحور الأول وهو المحور الغربي يعلن رسميا حربه على المحور الثاني ويصنفه خطراً استراتيجياً، وأنه يفرض عليه عزلة تستخدم العقوبات المالية والاقتصادية بقسوة على كل من يهدّد بخرقها، وأن الصراع بين المحورين بات يتخذ شكل الصراع بين نموذجين اقتصاديين عالميين، نموذج الغرب القائم على الاقتصاد الافتراضي وقاعدته البورصة والسندات المالية والمعاملات المصرفية، ونموذج اقتصاد الأصول الثابتة وقاعدته موارد الطاقة والمواد الخام والغلال الإنتاجية الزراعية وملايين السلع الصناعية الاستهلاكية، وأنه للمرة الأولى في تاريخ المنافسة الاقتصادية، يقف العالم في نقطة توازن بين المحورين، تترجّح فيه تدريجياً كفة المحور الشرقي، بعد عقود من السيطرة المطلقة للمحور الغربي.
– تأتي زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الى السعودية وما رافقها من قمم صينية سعودية وصينية خليجية وصينية عربية، تعبيراً عن مرحلة نوعية من مراحل هذا الصراع، فهي تتويج لمرحلة من التغيير في قواعد الاشتباك بين المحورين، ثبتت فيها قدرة محور الشرق على حماية تماسك تحالفاته، وباءت محاولات استقطاب وتحييد أي منها بالفشل، وهذا ينطبق على محاولات تفكيك الحلف الثلاثي الذي يشكل نواة المحور، كما ينطبق على تقديم الإغراءات لأطراف مجموعة البريكس ومجموعة شانغهاي، بينما بدأت ملامح انتقال الصراعات والانقسامات داخل حلفاء محور الغرب تزداد وضوحاً وقوة، حيث بدا بوضوح أن الحليفين الأهم للغرب في منطقتنا، تركيا والسعودية تتخذان لهما مواقع ومواقف لا تنسجم مع الاصطفاف الذي يريده محور الغرب منهما، وتركيا أبرز أعضاء حلف الأطلسي بعد أميركا من حيث القوة العسكرية، وأهمها في التأثير على روسيا في حرب أوكرانيا بسبب شراكتها الحاسمة في الملاحة في البحر الأسود الذي يشكل بحيرة تحتضن قاعدة الأسطول الروسي الرئيسية. وفي حرب تتخذ عنوان حرب الطاقة في الكثير من وجوهها تحتل السعودية مرتبة حاسمة موازية للمرتبة التركية عسكرياً، حيث تشكل المورد الرئيسي للنفط إلى أسواق العالم، والجهة القادرة على فرض تخفيض الأسعار بزيادة الكميات المنتجة، والجهة القادرة على خوض حرب مضاربة على النفط الروسي وتعويض نقص كميّاته لدفعه خارج الأسواق، وفي الحالتين تمتنع تركيا والسعودية من الاستجابة رغم الإغراءات والتحذيرات، وصولاً للغضب.
قدمت روسيا والصين نموذجاً للعلاقات الدولية، عنوانه قانون المصلحة، وأداته الخروج من المحاور إلى الشراكات المزدوجة، فقدّمت روسيا الفرصة لتركيا لاختبار هذا النموذج الذي أثبت نجاحه حتى الآن، وقدّم لتركيا ميزات في المصالح والدور، وعنوانه أن بمستطاع تركيا أن تحقق مصالحها عبر علاقتها بروسيا، دون أن تجد نفسها مضطرة للاختيار بين هذه العلاقة ووجودها في الناتو وتحالفها مع محور الغرب، ومثلها العلاقة الروسية السعودية في سوق النفط، والأهم ما حملته الزيارة الرئاسية الصينية الى الرياض والقمم التي رافقتها، التي قالت إن السعودية تستطيع بقوة تموضع المصلحة أن تلعب دور قوة كبرى، وأن أحدا من شركائها الجدد، المشتري الأول والشريك الأول في سوق البيع والشريك التجاري الأول في الوقت نفسه، لا يطلب منها ثمناً سياسياً، خصوصاً ما يتّصل بعلاقته بالغرب.
– التحوّلات الكبرى لا تجري بطلب، إنها تجري بسلاسة، تكتشف الدول أن زمناً ينتهي وأن زمناً يتهيأ للبداية، فتقرّر تغيير وجهة شراعها لتبحر في مياه آمنة، دون أن تعلن انحيازات جديدة، لكن دون أن تذكر انحيازاتها القديمة، وشيئاً فشيئاً تتراكم وتتابع الخطوات، وتزداد التحولات، وتنشأ توازنات جديدة يصعب الارتداد عليها أو كسرها، وبينما ترصد الصين والسعودية أرباحهما من العلاقة المتصاعدة نمواً، تحسب أوروبا قرشها الأبيض الذي تنفقه في يومها الأسود وهي تناقش وضع سقف لسعر الغاز الروسي وتنقسم الى نصفين وتعجز عن اتخاذ القرار، ويأتيك صاحب رأس مربّع ليقول لك إن الغرب يتحكم بكل شيء وإن كل شيء تحت السيطرة.