توجّهات السياسة الأميركية في ضوء زيارة ماكرون لواشنطن ورئيس الصين للرياض
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
احتفى البيت الأبيض بضيفه الزائر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤكداً عمق العلاقة التي تربط واشنطن بالاتحاد الأوروبي، الذي شخّص دوره بدقة وزير خارجية بلجيكا الأسبق، مارك آيسكينز، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، متهكماً بالقول إنّ تباين توجهات الاتحاد الأوروبي والتناقضات الكامنة بين صفوفه وضعاه في مرتبة «عملاق اقتصادي، وقزم سياسي، وفي حال انطواءٍ عسكري»، أمام مواجهة واشنطن.
نجحت الولايات المتحدة، منذ ولاية الرئيس باراك أوباما، في تقزيم أهمية دول الاتحاد وسيادة قراره، وخصوصاً أكثرها تأثيراً ونفوذاً، فرنسا وألمانيا، وفرَض عليها بمجموعها زيادة إنفاقها العسكري لتصل إلى 2% من الناتج الوطني، كحدّ أدنى، والاصطفاف خلف قرار واشنطن بما يخدم مصالح الأخيرة. وتركت واشنطن للاتحاد «هامشاً» رمزياً للتحرك يوازي قرارها تزويد أوكرانيا ترسانةً متنوّعة من الأسلحة والذخائر والمساعدات الاقتصادية.
تُدرك الولايات المتحدة، في المديات الأبعد، حاجتها إلى تطوير استراتيجيتها الأوروبية، بفعل التطورات العالمية، التي بدأت تتبلوَر أركانها «لاستبدال سياسة العولمة بعقد تحالفات اقتصادية على مستوى الأقاليم»، وبما يضمن سيطرتها على الدول الغربية مجتمعة وانخراطها أيضاً في مشاريع هيمنة واشنطن على الموارد العالمية.
وتعتقد بعض النُخب الأميركية أنّ واشنطن لن تتخلّى عن توظيف حلف الناتو كفخٍّ «لتقويض أوروبا»، وتوجهاتها لتدمير اقتصاد الدول الأخرى، وعلى الدول الأوروبية المشاركة الفعّالة في ذلك.
واشنطن، بحزبيها الديموقراطي والجمهوري، لا تُخفي ازدرائها القارة العجوز كمجموعة، ويصرّح قادتها العسكريون بشأن وضعية القوة العسكرية الأوروبية بأنها «هامشية في حسابات الاستراتيجية الأميركية»، لقناعتها شبه المطلقة بأنّ «روسيا لا تمتلك القوة أو الإرادة لغزو دول حلف الناتو»، ولا تعوّل على تكليفها إرسال قوات عسكرية مباشرة إلى أوكرانيا، مثلاً .
أما بشأن المواجهة الأميركية مع الصين، فإنّ «مساهمة حلف الناتو في نشر قوات أوروبية هناك، ستبقى رمزية صرفة» (أناتول ليفن، مدير برنامج أوروبا الآسيوية في «معهد كوينسي» بواشنطن، 1 كانون الأول/ ديسمبر 2022).
في ضوء هذه الخلفية وتواضع التوقعات، تعتقد النخب السياسية والفكرية الأميركية أنّ الزيارة تأتي لتعزيز موقف الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي سيمضي لحشد الأوروبيين، عبر الرئيس الفرنسي، خلف الإجراءات العقابية الأميركية نحو روسيا.
ليس سراً ما تُضمره واشنطن من مشاعر عدائية تجاه القارة العجوز، وما تخشاه من إمكانية مضي «بعض» الدول الأوروبية الرئيسة في رفع العقوبات المفروضة على روسيا «لقاء تسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا واستئناف ضخ الغاز الروسي» إلى أوروبا، وتمضي في وضع مزيد من العراقيل أمام دول الاتحاد الأوروبي، التي تئِنّ من وطأة نقص هائل في مخزون وتوريد الطاقة والغاز الروسيين.
ما يميّز العلاقة الثنائية الخاصة بين واشنطن وباريس هو استمرار الأزمات بينهما، بدءاً بعهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، وقراره المبدئي عدم انضمام بلاده عسكرياً إلى حلف الناتو، مروراً بالأزمة الأخيرة بينهما المتأتّية من ضغوط واشنطن على أستراليا لفكّ عقودها العسكرية المبرمة مع فرنسا لبناء غواصات نووية، متسببتةً بخسارة مالية ضخمة للأخيرة.
سلّطت الأزمة الأوكرانية الضوء على «تباعد» الرؤى واستراتيجيات التعامل مع المسألة بين واشنطن وباريس، وذهاب الرئيس الفرنسي بعيداً في انتقاده واشنطن قائلاً: «أميركا تبيع أوروبا الغاز بأربعة أضعاف سعره». ووجّه كذلك وزير المال الفرنسي، برونو لو مير، اللوم إلى واشنطن قائلاً إنّ المصدّرين الأميركيين «يستغلون أزمة الطاقة لتعزيز سيطرة الولايات المتحدة اقتصادياً وإضعاف أوروبا»، (كلمة للوزير لومير أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2022).
وتفاقمت أزمة عدد من الدول الأوروبية نتيجة استمرار الحرب في أوكرانيا، وطلبات واشنطن المستمرة، أحياناً بصيغة التهديد، لتقديم دعم متواصل لأوكرانيا. وهو ما دفع اليومية الأميركية «بوليتيكو»، في نسختها الأوروبية، إلى رصد تدهور الآلة الإنتاجية الأوروبية نقلاً عن مسؤولين فرنسيين بأنه «جرى استنفاذ مخزون الأسلحة المقدمة من دول الناتو إلى أوكرانيا من بقية مرافق التخزين» («بوليتيكو»، النشرة الأوروبية، 1 كانون الأول/ ديسمبر 2022).
وأشارت الصحيفة الأميركية ولسان حال المؤسسة الحاكمة، نيويورك تايمز، إلى حال «الإرهاق في 20 دولة من مجموع دول الحلف الثلاثين»، ونفاذ مخزون ترساناتها الحربية نتيجة دعمها الحرب في أوكرانيا، لكن واشنطن أصرّت على ضرورة استمرار تدفق الأسلحة الأوروبية إلى أوكرانيا (يومية «نيويورك تايمز»، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022).
الجانب الفرنسي مهّد للزيارة بإعلانه أبرز عناوين جدول الأعمال، وهي «حضّ واشنطن على دفع مساعي (ماكرون) الدّيبلوماسية بشأن الحرب في أوكرانيا والاعتراض الفرنسي على النزعة الحِمائية الأميركية» لشركاتها متعددة الجنسيات (موقع «فرنسا 24» الإلكتروني، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022).
الرئيس الفرنسي ماكرون هو المسؤول الأوروبي الأوحد الذي يحافظ على إدامة علاقة مباشرة بنظيره الروسي، وقوبلت تصريحاته بعدم رضا واشنطن في شأن ضرورة التوصل إلى مفاوضات تفضي إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، وذلك تتويجاً لمساعي عُزوف الشعوب الأوروربية وتفاوت حماسة دعمها لأوكرانيا، وإحساسها بمعاناتها الذاتية من غلاء وسائل الطاقة نتيجة «أخطاء» قرارات زعمائها بالاصطفاف خلف واشنطن.
أميركا: الصين والسعودية
رسمياً، واكبت واشنطن زيارة الرئيس الصيني للرياض عن كثب ولم تُصدر ديباجاتها المعتادة بالانتقاص من الصين وشيطنة السعودية. ووصفت الزيارة بـ «الحيوية وبالغة الأهمية»، (يومية «وول ستريت جورنال» في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2022).
ونقلت الصحيفة عن عيّنة من النخب الفكرية والسياسية الأميركية معربة عن «قلق الولايات المتحدة» من الزيارة، التي أسفرت عن توقيع «اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة» بينهما، تشمل قطاعي الطاقة والتقنية المتقدمة «وربما عقد صفقات شراء السعودية معدات عسكرية صينية متطورة، وبناء مصنع لإنتاج بطاريات الهيدروجين» في السعودية لمصلحة «المدينة الذكية» التي تبنّاها ولي العهد محمد بن سلمان.
قِلّة من النُخب الأميركية المشار إليها تناولت بصدق معادلة «لماذا تنجح الصين وتفشل أميركا» في استرضاء الدول النامية، أو الغوص في عمق الاستراتيجية الصينية التي تستند إلى عقيدتها وموروثها التاريخي، تيانكسيا (Tianxia)، يقابلها مفهوم «كل شيء تحت قبة السماء».
ورأت تلك الفئة أنّ زعماء البلدين، الصين والسعودية، قد «جُرِحت مشاعرهما نتيجة إصرار واشنطن على ترويج الحريات الفردية والحقوق الإنسانية» (يومية «وول ستريت جورنال»، 8 كانون الأول/ ديسمبر 2022).
وتجاهلت تلك النخب الخوض في تفصيل حقيقة العقيدة الصينية، «تيانكسيا»، التي تستند إلى منظومة هرمية «تكون فيه منظومة القِيَم أعلى من الحرية (الفردية)، والأخلاق فوق اعتبارات القانون» (بحث لأستاذ العلوم السياسية بجامعة عنّابة بالجزائر، يوناب كمال، نشره في موقع «الميادين نت»، 22 نيسان/ إبريل 2020).
ومن أهمّ بنود «التيانكسيا»: مركزية الدولة، فقد فهم المسؤولون أن بلادهم لم تخسر إلا عندما ضعُفت السلطة المركزية، وهذا ما يقوله تاريخ الحروب الأهلية والمجاعات وحروب الأفيون والاجتياحات الأجنبية» (بحث للدكتورة حياة الحويّك عطيّة، 27 آذار/ مارس 2020).
وأضافت د. عطية موضّحة لقد عُرف النظام التاريخي الصيني بنظام «التيانكسيا». وعندما اعتنقت الصين شيوعية ماو تسي تونغ، كان الأخير قد حاول أن ينهل من التراث الثقافي الصيني لبناء تيانكسيا جديدة، وهكذا استمرّ خُلفاؤه. فلم تكن الصين شيوعية كالاتحاد السوفياتي، ولا ليبرالية كأوروبا وأميركا. وبهذا حافظت على تصاعد قوتها من دون أن تخسر نفسها».
عداء أميركا للصين يتصدّر خطابات وتوجهات قادتها، سياسيين وعسكريين، فضلاً عن الضخ اليومي في أخطبوط إمبراطوريتها الإعلامية التي تركّز على البعد الأيديولوجي التقليدي واستنهاض نزعة العداء للشيوعية.
كما تبنّى الكونغرس سلسلة من القوانين «تُشرعن» عداء المؤسسة الحاكمة للصين، من أبرزها «قانون المنافسة الاستراتيجية لعام 2021»، الذي يُصنّف الصين منافساً استراتيجياً للولايات المتحدة، عوضاً من التعاون بينهما وترجمة توجهات الإدارات الأميركية السابقة التي عدّت الصين «شريكاً استراتيجيا».
وتأكيداً للتوجهات العدائية للمؤسسة الحاكمة الأميركية، ازداد منسوب التوتر واحتمال اندلاع اشتباك مباشر بين واشنطن وبكين عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لتايوان على الرغم من رفض الصين وتحذيرها إياها، فضلاً عن مطالبة الرئيس الصيني نظيره الأميركي بالتزام مبدأ «الصين الواحدة»، الذي يعني عدم اعتراف واشنطن ديبلوماسياً بتايوان.
قادة أميركا العسكريون أيضاً انضمّوا تباعاً إلى موجة التهريج الإعلامي ضد الصين ومخطّطاتها المستقبلية، وبأنها تمثّل «تحدياً منهجياً للولايات المتحدة، وفي جميع المجالات العسكرية والاقتصادية والتقنية والديبلوماسية». وآخرهم قائد القيادة الاستراتيجية الأميركية، ستراتكوم، تشارلز ريتشارد محذّراً من أنّ الصين تطور أسلحتها النووية بوتيرة أسرع بكثير من الولايات المتحدة، (يومية «واشنطن تايمز»، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2022).
وفي ما يخصّ السعودية وزيارة الرئيس الصيني لها، أعربت واشنطن عن قلقها العميق من توافق الطرفين، الصيني والسعودي، على الاتجار بالعملات الوطنية بينهما وخارج منظومة «سويفت» الغربية. ولفتت إلى مشاركة مندوب عن «البنك التجاري والصناعي للصين « في الوفد الرسمي الزائر للرياض، وهو أكبر المصارف الصينية، «والمشارك المباشر في بلورة نظام سيبس – CIPS» المالي البديل من منظومة «سويفت».
زيارة شي جين بينغ عربياً
في البدء كانت مِصْر وقاهرتها تُمسك بإيقاعات التطورات السياسية والدولية وتتصدّرها، وهي أول من اعترف بجمهورية الصين الشعبية، في 16 أيار/ مايو 1956. التزمت القاهرة سياسة «الحياد الايجابي»، كما جسّدتها قمة باندونغ (نيسان/ إبريل 1955) ، وساهمت في تأسيس مجموعة «دول عدم الانحياز» بين القطبين العالميين، موسكو وواشنطن.
وفي ظلّ الإنطباع السائد بأنّ تحرّك مِصْر لا يزال مقيّداً كطرفٍ تابعٍ للقرار السعودي، وذلك على نقيض دورها المميّز والقيادي في بوصلة توجهات السياسة العربية، على مدى عقود حاسمة، وعلى رأسها القضية المركزية فلسطين، التي تغيب على نحو صارخٍ عن جدول أعمال قمم الرياض الثلاث المعلنة مع الرئيس الصيني الزائر.
كان ذلك ضرورياً لسبر أغوار ركائز الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية، وموافقة النظام الرسمي بقيادة الثقل السعودي على عدم إثارة مسألة «عودة اللاجئين الفلسطينيين»، او معادلة «إيجاد حلّ عادلٍ للقضية الفلسطينية» على الساحات الدولية، كما كانت، وما زالت، ثابتة في السردية الرسمية للنظام العربي.
جوهر مسألة تغييب «حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة» أنه يصبّ في خدمة الرؤى الاميركية الثابتة لتحصين «الكيان الاسرائيلي» وديمومة تفوّقه على مجموع القوى العربية، على الأقل في دول الطوق التي شكّل خروج مصر من معادلة المواجهة والتصدي أكبر خدمة لمشروع الهيمنة الاميركي، وامتداداً إلى ضخ الحياة في المشروع الصهيوني بأيدي وأموال عربية.
يسود اعتقاد لدى بعض النخب الفكرية والسياسية أنّ واشنطن ليست بعيدة معن حيثيّات القمم المتتالية في الرياض، وخصوصاً أنّ مصالحها أضحت مصونة وبتكلفة تتحملّها دول النفط العربية بالدرجة الأولى. كما تُوفّر فُرصاً فريدة لها لضبط إيقاعات العلاقات العربية الصينية، على أرضية التزامات الأطراف اتفاقيات، بل قيود، «كامب ديفيد»، وكذلك ديمومة التزام أصحاب الدعوة عزل سورية واستبعادها من التطورات الإقليمية حولها، وتشديد الحصار عليها.
عالم اليوم يبتعد عن الالتزام الإيديولوجي الذي ميّز علاقات الصين وروسيا سابقاً بدعم حركات التحرر العربية ونُظمها الوطنية. وتغلّبت المصالح الاقتصادية لكلّ دولة على ما عداها من قِيَم والتزامات تنموية، نتيجة تغوّل عقيدة «العولمة» والتوجهات الليبرالية الأميركية، وتطبيقاتها التي زادت من معدلات الفقر والتهميش وهجرة الأدمغة.
وعليه، فإنّ النظم السياسية المحلية هي من تعوّل على نتائج إيجابية لتوجهات الصين وعلاقاتها المتعددة بالمنطقة العربية، وهي أيضاً تطمع في تعزيز شرعيتها المفقودة.