لبنان من التعددية الى الفسيفسائية؟
} د. عصام نعمان*
لبنان بلد فريد. فرادته نابعة من تعدّديته. إنه بلد الطوائف والمذاهب والعشائر والأُسر الإقطاعية العابرة للقرون والأجيال، والأقليات من شتى الأديان والأثنيات والعصبيات والطرق الصوفية، والأحزاب والتنظيمات والنقابات والميليشيات والعصابات، والشخصيات ذات المواهب والحضور والفعاليات ذات النفوذ، والأفراد الأذكياء والأبرياء العاملين أو العاطلين من العمل.
كلّ هؤلاء ألّفوا ويؤلفون عبر العصور والعهود كياناً هو أقلّ بكثير من دولة متماسكة وأكبر بقليل من شركة ذات شركاء مالكين كثر ومساهمين صغار قلائل. أكثرُ السكان المقيمين في الكيان المتقلقل أتباع ورعايا ومستهلكون لا يعرفون معنى المواطنة ولا يتصرفون تالياً كمواطنين لأن ليس ثمة دولة تعتبرهم كذلك.
هذا الكيان المتعدد الفريد والطريف كان، وما زال، على مدى التاريخ القديم والمعاصر عرضةً لغزواتٍ عسكرية وتدخلات سياسية ومخططات اقتصادية ومبادرات ثقافية أسهمت جميعها في تعميق تعدديته وفرادته. من مفارقات تاريخه الحديث أن أفراداً وجماعات من وافدين من خارج البلاد كانوا، وما زالوا، أكثر السكان المحليين تقبلاً وتعاملاً مع وافدين جدد لغايات ومصالح سياسية واقتصادية، وهم اليوم البيئة الحاضنة لثقافة الغرب، والمتغرّبون المقلّدون لطقوس مجتمعاته ومبتكراتها في شتى الحقول والميادين.
قلّة من سكان الكيان الفريد يعتقد أفرادها ويتصرفون كأعضاء عضويين في جسم اجتماعي وثقافي وسياسي أوسع يضمّهم وغيرهم من الشعوب والمجتمعات المتجذرة في إقليم مترامي الأطراف يقع بين المحيط الهندي شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً وعلى سواحل بحور ثلاثة: المتوسط والأحمر والعرب. هذه القلّة المميّزة من السكان تعتبر نفسها خارج الأكثرية المؤلفة من جماعات وطوائف وعشائر ومذاهب وأفراد من شتى الأديان والمذاهب بل تعتبر نفسها خارجة عليها، بمعنى أنها تناهضها بلا هوادة للحؤول دون تعميم فهمها للهوية الحضارية والمصير الواحد للجسم الاجتماعي والسياسي الكبير الذي تجاهر في الانتماء اليه.
من الأمور اللافتة في الآونة الأخيرة أنّ بعضاً من أطراف الكيان المتعدد بطوائفه ومذاهبه وأقلياته وإثنياته ومليشياته أخذ يطرح شعارات وصيغاً ومطالب تنادي باعتماد الفدرالية واللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة بعيداً من الدولة المركزية. والغريب أنّ هذه الأطراف تدرك انّ نظام لبنان السياسي وإنْ كان ينطوي نظرياً على دولة مركزية إلاّ أنّ هذا المفهوم للدولة غائب تماماً عن الواقع الفعلي بل إنّ الدولة نفسها غائبة بكلّ الصيغ السياسية والدستورية المتعارف عليها.
لا غلوّ في القول إنّ الإمعان في المناداة والعمل من أجل اعتماد الفدرالية أو اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة سيفضي، عاجلاً او آجلاً، الى تفكيك لبنان الى مجموعة كيانات طائفية هزيلة ومتناحرة وغير قابلة للحياة.
الى ذلك، وفي غمرة التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية المتنامية تتبدّى في هذه الآونة ظاهرة لافتة هي الفردانية الناجمة عن شيوع أجهزة التواصل الاجتماعي وتسارع وتيرة استعمالها في شتى أوساط المجتمع اللبناني وفئاته وطبقاته ما أدّى الى اتساع معرفة الفرد، متعلماً كان أم غير متعلّم. ومن المعلوم انّ المعرفة قوة، وأنّ اتساع معرفة الفرد يزيده وعياً وبالتالي قوةً وشعوراً ذاتياً بأنّ في مقدوره أن يفعل ويؤثّر وبالتالي أن يغيّر أكثر في شؤون بيئته ومجتمعه. ومع ازدياد تأثير الفرد الأكثر معرفةً ووعياً وقوة في الشؤون العامة، نشأت ظاهرة لافتة هي ازدياد وتيرة إنشاء الهيئات والجمعيات والنشاطات والتيارات والتنظيمات التي يقود كلّ منها فرد أو مجموعة محدودة من الأفراد. بذلك تعمّقت التعدّدية وأصبحت فسيفسائية مرهقة ذات دورٍ فاعل ومعطّل في السياسة، كما في سائر ميادين الحياة العامة.
إزاء هذه التخمة من الفعاليات السياسية والاجتماعية المتشابكة والمشتبكة، ازدادت صعوبة إنشاء جبهات وتحالفات بين القوى النهضوية الملتزمة والقادرة على قيادة وتفعيل مبادرات ونضالات للخروج من قبضة نظام المحاصصة الطوائفي الممسك بما تبقّى من هياكل الدولة “المركزية” المترهّلة والمفلسة، بقصد التحرر منه للانتقال الى رحاب العمل من اجل بناء دولة المواطنة المدنية.
ليس أدلّ على تعمّق التعددية واستشراء الفسيفسائية وتنامي الفردانية وتزايد التدخلات الخارجية في المشهد اللبناني العام من عجز مجلس النواب، بتكتلاته وجماعاته وأعضائه المتشرذمين، عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية رغم عقده، على مدى شهرين، عشر جلسات متوالية دونما جدوى.
إذ يبدو لبنان مرشحاً الى تصدير أزمته المزمنة وتعدّديته المتحوّلة الى فسيفساء سياسية وثقافية معطِّلة للمرافق والمؤسسات والأعمال الى العام المقبل، لا يبقى من سبيل عملي لمواجهة هذا التحدي الخطير إلاّ بمسارعة القوى الوطنية الحيّة الناهضة بمهمّتي الإصلاح الجذري ومقاومة الكيان الصهيوني العدواني الى تخطّي تبايناتها والمبادرة بلا إبطاء الى بناء تحالف وطني عريض القاعدة لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفي وتكثيف العمل الجدّي لإقامة دولة المواطنة المدنية.
هذا التدبير السياسي الجذري الاستباقي كفيل بتطويق واحتواء وتلطيف المماحكات والصراعات بين أطراف الفسيفساء السياسية والفئوية المتنامية وقطع الطريق على استغلال القوى الخارجية لتعقيدات المشهد السياسي الداخلي والحؤول تالياً دون تدهور الأوضاع الى حرب أهلية.
*نائب ووزير سابق