الناتو يحذر من الاستخفاف بروسيا؟
ناصر قنديل
– منذ بداية حرب أوكرانيا استند الخطاب العسكري الغربي على مقولة واحدة، عنوانها أن روسيا تعاني مشاكل عسكرية عميقة تحول دون قدرتها على تحقيق إنجازات في الحرب على أوكرانيا. وتناوبت المخابرات البريطانية والأميركية على إصدار تقييمات تشير إلى ما تسمّيه عناصر الضعف الروسي، مرة بالحديث عن غياب القدرة على التخطيط وضعف القيادة، ومرّة بالنقص البشري، ومرات بالحديث عن نقص الذخائر، ومرات بالحديث عن ضعف لوجستي في تأمين الإمداد بالوقود والذخيرة والطعام. وتجنّدت لتعميم صورة للجيش الروسي تتجاهل تاريخه العسكري العريق، وحجم مقدراته الهائل، ونشر صورة بديلة لجيش متهالك عاجز ينتظر ساعة الهزيمة.
– اليوم يبدو بوضوح أن الصورة التي تمّ تعميمها ليست هي الصورة التي يعتقد قادة الغرب بأنها حقيقة الجيش الروسي، فعندما يقول أمين عام حلف الناتو، أن روسيا تخطّط لحرب طويلة ويحذّر من الاستخفاف بمقدراتها، فهو يوجّه كلامه حصراً للذين صدقوا الرواية التي عممها الناتو نفسه عن صورة الجيش المتهالك للجيش الروسي، بل هو يوجه كلامه لقادة الناتو أنفسهم عندما يشير إلى أن نقص الذخائر موجود على صفة قدرات دول الناتو، وإلى أن نفاد المخزون يستدعي التفكير بزيادة قدرات الإنتاج لتلبية المزيد من الطلبات الأوكرانية، وهو بذلك يقول إن الناتو كان يكذب في ما روّجه حول ضعف روسيا والاستهانة بقدراتها، لأن الجمع بين صورتين لجيش واحد، صورة جيش متهالك وصورة جيش قادر، أمر مستحيل.
– عملياً ما قاله أمين عام الناتو يعني أن الحملة التهوينية التي نظمها الناتو كانت مبرمجة لتحقيق أحد هدفين وقد فشلت وصارت عبئاً على الاستعداد لمواجهة المرحلة المقبلة: الاحتمال الأول أن الناتو كان يراهن على فعالية استثنائية للعقوبات المالية التي تمّ فرضها من الدول الغربية على روسيا، بحيث تؤدي إلى انهيار سياسي في موسكو يوقف الحرب، ويمنح الغرب فرصة الحديث عن نصر عسكري والقول إنه علامة على صدق تحليلاته العسكرية لتهالك الآلة الروسية ويستثمر في تعميم هذه الصورة في حرب الوعي والمعنويات وتوازن القوى اللاحق للحرب. وجاء فشل العقوبات وتماسك الداخل الروسي ليحبط الخطة. والاحتمال الثاني أن تعميم صورة مهينة للجيش الروسي كان يهدف لاستفزاز القيادة الروسية ودفعها لإظهار قوتها عبر اعتماد خطط مخالفة لما رسمته على الصعيد العسكريّ من مهام، والمقصود كان استدراج الجيش الروسي الى مواجهات برية واسعة ومتعددة تستنزفه بشرياً، بدلاً من اعتماده الاستهداف المدفعي والصاروخي للمنشآت الحيوية الأوكرانية والتموضع وراء خطوط دفاعية متينة، والواضح أيضاً ان هذه الخطة فشلت، وأن مضي روسيا بتنفيذ خططها قد حقق أهدافه بالإمساك بزمام المبادرة في الحرب، كما يقول عملياً بيان الناتو.
– يعرف الأمين العام للناتو أن دول الحلف مأزومة مالياً، وأن مخزونها العسكري ينفد، وأن قدرتها على تلبية الطلبات الأوكرانية تستدعي إنشاء خطوط إنتاج جديدة مكلفة، ويعرف أن الرأي العام داخل دول الغرب لم يعُد يبد حماساً لخطاب الحرب أمام ضغط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بل إن درجة التعاطف مع اللاجئين الأوكرانيين والاستعداد لتمويل إيوائهم وأكلاف معيشتهم قد تراجعت كثيراً، وأن صعود اليمين في العديد من دول أوروبا يتم على قاعدة أولوية المصلحة الوطنية على أي أحلاف. ويعرف الأمين العام للناتو أكثر أن الأزمة بلغت حداً تجد فيه واشنطن أن عليها الاختيار بين المصلحة الأميركية ومصلحة الحلف، وقد اختارت أولوية المصلحة الأميركية عندما قرّرت بيع الغاز بأربعة أضعاف سعره للدول الأوروبية، وأن الشكوى من التعامل الأميركي وردت على ألسنة القادة الأوروبيين مراراً، وأن التماسك السياسي للحلفاء وراء قرار الحرب بدأ يتزعزع لصالح دعوات التفاوض، وقد صارت دعوات معلنة لكل من ألمانيا وفرنسا، ولذلك وجد الأمين العام للناتو أن عليه دبّ الذعر من هزيمة مقبلة بدل التباهي بنشوة نصر مزعوم، أملا بشحذ الهمم مجدداً، لكن المثل البدوي يقول “العليق عند الغارة ما يفيد”، أي أن إطعام الأحصنة أثناء التعرّض للغزو لا ينفع، ومن يريد الاستعداد للحرب عليه أن يطعم احصنته ويجهزها ويرعاها كل يوم كأن الغزو سيقع غداً، لا أن ينتظر وقوع الحرب، فقد كان وقت الحديث عن عدم الاستهانة بروسيا مطلوباً يوم كان التطبيل والتزمير للحديث عن سقوط وشيك لروسيا!